والتربية القرآنية يا -عباد الله- حظيت بمنزلة سامية ومكانة رفيعة؛ وذلك لسمو غايتها، وسعة أفقها ورحابة منهجها، وسلامة طريقها، وامتداد ثمرتها حيث شملت الإنسانية كافة، وحسبها شرفا أن القرآن الكريم هو...
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ثم اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد -صلوات ربي وسلامه عليه-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: تولد النفوس البشرية على الفطرة حيث يكون البشر في أنقى مراحلهم العمرية في هذا الحياة الدنيا؛ ففيها تميل قلوب الخلق إلى محبة الحق وإيثاره على الباطل وهذا حقيقة الفطرة ولبها التي قال الله عنها؛ (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[الروم:30].
ويبقى الناس على فطرتهم السوية حتى يأتي عارض يفسدها؛ فيخرجها عن سبيلها؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"؛ فتقود هذه التبعية إلى الزيغ والهلاك؛ إلا أن تدركهم رحمة الله؛ فيعودوا إلى فطرة الله التي فطرهم عليها.
وقد يصيب النفوس البشرية عارض دون العارض الأول؛ فيبعدها بترك أوامر الله وفرائضه أو التقصير فيها، والوقوع في المنهيات التي نهاهم عنها؛ وهذا الانحراف يحتاج إلى تحصين ومعالجة.
ولا شك أن أنفع تحصين للفطرة السوية هو التأمل في التربية القرآنية وتربية النفوس عليها منذ النشء؛ فإن فيها الدواء الكافي والعلاج الواقي بإذن الله -تعالى-.
والمتأمل في حقيقة التربية القرآنية يجد أنهاء جاءت بمعنى التنشئة والتنمية؛ (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)[الشعراء: 18]، وجاءت بمعنى التزكية والتعليم؛ (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آل عمران: 164].
والتربية القرآنية يا -عباد الله- حظيت بمنزلة سامية ومكانة رفيعة؛ وذلك لسمو غايتها، وسعة أفقها ورحابة منهجها، وسلامة طريقها، وامتداد ثمرتها؛ حيث شملت الإنسانية كافة، وحسبها علوا وشرفا أن القرآن الكريم هو مصدرها الأول الذي لا يتغير ولا يتبدل؛ وهو الكتاب الهادي للبشرية جمعا إلى معالي الأمور؛ قال -سبحانه-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[الإسراء: 9].
وكما أن التربية القرآنية نالت المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة؛ فقد تميزت كذلك بخصائص ومزايا فاقت بها ما سواها من المناهج الوضعية؛ فمن ذلك:
الربانية؛ ونعني بذلك أن مصدر التربية القرآنية هو القرآن الكريم كلام الله -عز وجل- الذي؛ (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 42].
ومن خصائص التربية القرآنية: التوازن والتوسط والاعتدال، وهذه سمة من سماتها؛ ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)[البقرة:143]، ومن مظاهر التوازن في التربية القرآنية؛ التوازن في الخوف والرجاء؛ كما قال -سبحانه-: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)[الحديد:23]، والتوازن بين مراقبة العليم الخبير وبين تربية الضمير؛ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)[النساء: 108].
ومن خصائصها شمول التربية القرآنية لكافة كيان الإنسان؛ روحا وفكرا وجسدا؛ فحثت على كل ما تحيا به الروح من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "إن في الدنيا جنةً، مَن دخلها دخل جنةَ الآخرة، ومَن حُرِم منها حُرم من جنة الآخرة"؛ وهذا لا شك أنه يربي الروح تربية تظهر آثارها في الأعمال والسلوك؛ كما أنها حثت على ما يحفظ به الجسد من الرعاية والعناية.
ومن خصائصها: الواقعية؛ فقد راعت التربية القرآنية طاقات الناس؛ فجاءت أحكامها وواجباتها بما يتناسب مع قدرات المكلفين؛ (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )[المؤمنون: 62]، (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)[الطلاق: 7]، وقال -جل في عليائه-: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[التوبة:91].
عباد الله: تلكم -بعضا- من الأخبار عن مكانة التربية القرآنية وخصائصها، أما أساليبها فتفوق الوصف والخيال كيف لا وهي من كلام الواحد المتعال، وإليكم جملة من أساليبها النافعة وطرائقها الثابتة؛ فمن ذلك:
التربية بالموعظة؛ وقد وردت التربية بالموعظة في مواضع كثيرة من ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس:57].
ومن أساليب التربية القرآنية: التربية بالترغيب والترهيب؛ فقال -سبحانه- مرغبا عباده المؤمنين؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 9]، وقال مرهبا للكافرين والمنافقين؛ (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[التوبة: 68].
ومن الأساليب: التربية بالقصة؛ يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هود:120]
ومن أساليبها: التربية بالقدوة؛ قال -تعالى- آمرا نبيه الكريم أن يقتدي بالأنبياء من قبله؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90]، وأمر عباده المؤمنين بأن يقتدوا بخير البرية وأسوة البشرية؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21].
ومن أساليب التربية القرآنية: التربية بالعبرة؛ قال -سبحانه-: قال -جل في عليائه-: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)[النحل: 66]، وكذا ضرب الأمثال؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)[الحج: 73].
ومن أساليبها: التدرج في نزول الأحكام الشرعية ومطالبة المكلفين بالقيام بها؛ وهذا الأسلوب نجده ظاهرا في التربية القرآنية؛ ومن ذلك ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا"(رواه البخاري).
فهنيئا لمن عني بالتربية القرآنية وأصلح بمنهجها نفسه وذريته وأتباعه، وعزاء لمن لم ينهل من معينها الصافي وموردها الزاكي.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على من اتخذ التربية القرآنية سبيلا ومنهجا، أما بعد:
أيها المسلمون: لسائل أن يسأل عن آثار التربية القرآنية ومنافعها ؟ وجواب ذلك فيما يلي:
بناء الشخصية المتكاملة التي تقوم بمسؤولياتها وواجباتها الدنيوية والأخروية؛ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[التوبة: 5]؛ وهذا يشتمل على تحمل المسؤولية الذاتية، والمسؤولية التابعة؛ كمسؤولية الراعي نحو رعيته والوالدان على أبنائهما، والزوجان نحو بعضهما، وسائر المسؤوليات والأمانات.
كما أن من ثمارها: أنها ربطت مصير كل إنسان بعمله ولم تربطه بغيره؛ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر: 38]، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى)[النجم:39 - 41]، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل:4-10].
أيها المسلمون: تأملوا في كتاب ربكم تجدوا فيه التربية القرآنية النافعة وأساليبها الناجعة، وفعلوها في إصلاح أنفسكم وأهاليكم ومجتمعاتكم وأمتكم؛ حتى تحظوا بثمارها الباسقة وخيراتها اليانعة؛ فتنعموا في الدنيا والآخرة.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي