ستمضي الأيام، وستسمع تكبيرات المسلمين مُعْلِنَةً رحيلَ الشهر وحلول العيد، وحينها سيحْمَد القومُ السُّرَى، وسيحصد الزارعون ما زرعوا، وحينها كم من صحيفة عتق من النار سينالها العاملون! وكم من مُفرِّط...
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أتدرون أيّ يوم هذا؟ إنه يوم الجمعة، وسيأتي من بعده يوم السبت، ومن بعد السبت سيأتي الأحد، وسيأتي من بعد الأحد يوم الاثنين، ومن بعده سيأتي الثلاثاء، (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)[الذاريات:24]؛ فـ(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)[الفجر:5].
إن يوم الثلاثاء يوم يتكرر في كل أسبوع على مدار الحياة، وليس في ذلك من جديد، لكنه هذه المرة سيكون مميزًا؛ لأنه اليوم الذي ستدلف فيه الأمة إلى عالم الجنان وبركات الرحمن، إنه اليوم الذي تشرق فيه شمس الخيرات، وتضيء فيه أنوار المرحمة، إنه اليوم الذي تبدأ فيه رحلة من السباق إلى الطاعات والمنافسة على جائزة الرب -جل جلاله-، يوم تستقبله الأسر المسلمة لتبدأ فيه معركة مع النفس والهوى.
أما إني لا أقصد بالأسر تلك التي أتبعت نفسها هواها، وتتمنى على الله الأماني، تخوض معركة رمضان في ساحات الأسواق والمطاعم وسلاحها الطحين والعجين وغنيمتها مأكولات وأفلام ومسلسلات وفي النهاية؛ "رغم أنف عبد أدركه رمضان فلم يُغْفَر له".
إنما أعني بها تلك الأسر التي علت همتها، وأدركت سرّ وجودها، علمت أنها لم تُخْلَق عبثًا ولن تترك سدًى، أدركت أن رمضان منحة من الخالق ليستعتب المقصرون، ويزداد العاملون، تخوض معركة رمضان بسلاح الإيمان والصبر والمجاهدة لتدرك الفضل العظيم "مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا"، و"من قام"، غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه".
أُسَر مسلمة يبدأ استعدادها لرمضان من شعبان فتصومه اقتداء بنبيها لتعتاد الصيام وتسهل عليها العبادة. أُسَر تُظْهِر الفرح الحقيقي والاستبشار الصادق بطاعة الله متذكرة (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58]؛ تعبّر عن فرحها برمضان بالتسابق للخيرات والمسارعة إلى الصالحات، مدركةً أنه شهر لرفع الرصيد الأخروي والتطهر من أدران وذنوب سلفت.
أُسَر مسلمة تخوض معركة رمضان من المساجد والمعتكف، وبيد تمسك مصحفًا، وبأخرى تنفق على مسكين، أُسَر تتقلب ما بين صيام وصلاة وذكر وقراءة قرآن وتزاور وصلة للأرحام وتتنقل من عبادة إلى أخرى؛ لأنها تؤمن بقول خالقها: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].
أُسَر تتسامى بأسماعها وأبصارها من أن تتلوث بسماع الغناء وتتدنس برؤية الأفلام والمسلسلات الخادشة للحياء الهادمة للفضيلة تعرضها قنوات مفسدة أخذت على عاتقها إفساد روحانية رمضان، وإشغال المسلمين عن القرآن، وحرمانهم من أسباب التوبة والغفران، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو لقاء ربه فليجنّب بيته وأهله تلك القنوات التي لا تُنْبِت إلا تربية على التمرُّد والتخلّي عن المبادئ الفاضلة والتجرُّد من كل عفَّة وحياء، قنوات تُبدّل المفاهيم وتلبس الحق بالباطل وتثير الشبهات وتزرع الشهوات؛ فأيّ مسلم يرضى لنفسه وأهله هذا المصير؟!
الأُسَر المسلمة في رمضان تخطّط لشهرها؛ لأنها تدرك قيمته ونفاسته؛ استثمارًا لأوقاته واستغلالاً للحظاته، ترسم برنامجًا يملأ شهرها بنتاج يورث سعادة الدنيا والفوز والعتق في الآخرة.
الأُسَر المسلمة تحذر من لصوص رمضان السارقين روحانيته وفضله الهادمين منافعه وآثاره من قنوات مفسدة، وأسواق نصَب الشيطان فيها رايته، تُهدَر فيها الأموال وتضيع فيها الساعات، وتُعرض الفتن، وسهر يَسرق الأوقات ويحرم من التهجد والاستغفار والتنافس في القربات، وجوالات ووسائل تواصل تضيع في تتبّعها أغلى الأوقات بتفاهات وغثاء وقيل وقال/ وأخبار وتحليلات وأمور لا تعني المسلم بشيء، و"من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
الأُسَر المسلمة في رمضان تدرك أن في الدين مهمًّا وأهمّ وواجبًا وأوجبَ، وأن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدَّى فريضة، وأن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، فمن الجهالة أن ترى صائمًا لا يصلّي، أو ترى ممتنعًا عن الأكل والشرب، منهمكًا في أكل لحوم بني آدم، وأن ترى صائمًا يخوض في اللغو والرفث فصيامَ شهرِ رمضانَ يَجِبُ أن يكون مُقْتَرناً بالحفاظ على سائر الفرائض والواجبات، لا أن يكونَ سبباً لإضاعة الجُمعِ والجماعات، والتخلفُ عن الفرائض والصلوات.
ولئن ثبتَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"، فما الظن إذًا بمن ضيَّع الصلواتِ؟! وقد قال ربُنا (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون:4-5].
هكذا تكون الأسرة المسلمة في رمضان؛ لأنها تنظر بعيدًا إلى الحياة الآخرة، ولأنها تعلم أن أمنيات المقصرين يوم يُحتضرون ويوم يُبعثون ليست لأجل تفاهات وسفاهات وأفلام ومسلسلات وإنما أمنياتهم (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقين:10]، (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون:100]، (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزمر:58]، أدركوا ذلك فعملوا لذلك، أولئك الذين هدى الله وأولئك هم المتقون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد: أيها المسلم وأنت تترقب بزوغ شمس أجر جديد، وتتحين تلك الساعات الخالدة التي تشرق فيها شمس رمضان؛ حيث المغفرة والرضوان والعتق ورضا الرحمن، فإني أذكّرك يا من ترجو الله وتخافه أِنَّ لَدَيكَ طَاقَةً هَائِلَةً، وَإِرَادَةً قَوِيَّةً، وَرَمَضَانُ هُوَ الوَقْتُ المُنَاسِبُ لِتَفْجِيرِ هَذِهِ الطَّاقَاتِ، وإطلاق هَذِهِ القُدُرَاتِ.
هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَدَأَتْ تَهُلُّ نَفَحَاتُهُ، وَصِرْنَا نَسْتَمِعُ صوت خُطُوَاتِه، وَهَا أَنْتَ تدركه حيًّا وَغَيْرُكَ فِي بُطُونِ القُبُورِ، وَمُعَافًى وَغَيْرُكَ من الآلام يَئِنُّ، وللصلاة والصيام يحنّ، تدركه آمنًا مطمئنًا وغيرك يدركه وقد تخطّفه قريب يتجهّمه وعدو يهاجمه؛ فَمَاذَا تَنْتَظِرُ؟!
اجعل من رمضان مشروعًا لتوبة خَالِصَةً للهِ -تَعَالَى-، تُقْبِلُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى إعلان عِزِّكَ بِالهِدَايَةِ، وَتَمَيُّزِكَ بِالاِسْتِقَامَةِ، وَتُعْلِنَ فِيهَا رُجُوعَكَ إِلَى رَبِّكَ ومولاك، وَسُلُوكَكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ الذِي أَوَّلُهُ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَآخِرُهُ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضِ، وَيَكْفِيْكَ مَحَبَّةُ اللهِ لَكَ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)[البقرة:222].
اجعل من رمضان فرصة للتقرب إلى الله بإِغَاثَة الفُقَرَاءِ وَالأَيْتَامِ وَالأَرَامِلِ وَالمَسَاكِينِ، وَالقِيَامِ عَلَى رِعَايَتِهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَإِيصَال كُلِّ صَاحِبِ فَضْلٍ إِلَيْهِمْ، وَتَرْتِيبِ أَوْضَاعِهِمْ وَالقِيَامِ عَلَى خِدْمَتِهِمْ.
اجعل من رمضان مشروعًا للتخلُّص من العادات السيئة كالتدخين والسهر والفوضوية في الأوقات والعلاقات.
زِدْ رصيدك في رمضان بكل عمل صالح، وكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، واتق النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة.
يا أيها المسلم: ستمضي الأيام، وستسمع تكبيرات المسلمين مُعْلِنَةً رحيلَ الشهر وحلول العيد، وحينها سيحْمَد القومُ السُّرَى، وسيحصد الزارعون ما زرعوا، وحينها كم من صحيفة عتق من النار سينالها العاملون! وكم من مُفرِّط ستناله دعوة المصطفى والممهورة بتأمين الروح الأمين: "رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له".
رمضان يجمعنا، ولكن على ما يريد الله، لا ما يريده الذين يتبعون الشهوات، يجمعنا على الإيمان والتقوى وتلاوة القرآن وتدارسه والتسابق إلى مغفرة من الله ورضوانه.
يوم الثلاثاء يوم تنتظره القلوب المؤمنة بكل الشوق والترحاب؛ لأنها سئمت من قسوة الحياة، وعانت من ظلمات الذنوب وصدأ الغفلة عن العبادة، تنتظره لترقّ قلوبها وليرتفع إيمانها، ويزداد من العمل الصالح رصيدها، ولترتقي في مدارج السالكين وتتنزه في رياض الصالحين؛ فيا فرحة العابدين بشهر يرسمون فيه صورة العبادة الحقة لرب العالمين؛ حيث اليسر والواقعية والشمول والوسطية والاعتدال.
اللهم أقبِل بقلوبِنا في رمضانَ، ومُنَّ علينا فيه بالرضوانِ. اللهم ارحمْنا ولا تحرِمنا، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ أعْطِنَا من الخَيْرِ فوْقَ ما نَرْجُو واصْرِفْ عَنَّا من السُّوْءِ فَوْقَ ما نَحْذَر. اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبًّا صَبًّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدًّا كَدًّا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا. اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون.
اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا، وباركْ في أرزاقِنا واقضِ ديونَنا. اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي