هل إذا دخلَ أحدُنا المسجدَ يتواضعُ للهِ -تعالى-؟، لأنَّه في بيتِ مَلِكِ المُلوكِ، هل يستحي من الملائكةِ الكِّرامِ؟، هل الجوارحُ تخضعُ؟، هل القلوبُ تخشعُ؟، هل نستشعرُ أنَّنا في بيتِ العظيمِ العزيزِ، وأنَّه لا ينبغي لأحدٍ فيه أن يستكبرَ على أحدٍ،...
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: تخيَّلْ أنَّكَ تلقيتَ دعوةً من الدِّيوانِ الملكي لمقابلةِ الملكِ، فما هو شعورُكَ؟، وكيفَ هي الأيامُ بل السَّاعاتُ التي ستقضيها في انتظارِ الموعدِ؟، وكيفَ هي الاستعداداتُ ليومِ اللِّقاء؟، أخبرني عن نظافتِكَ وأناقتِكَ وملابسِكَ وريحِ طيبِكَ وأنتَ في طريقِكَ إلى الدِّيوانِ.
تأتي إلى الدِّيوانِ الملكي، وإذا المكانُ مليءٌ بالحرسِ وموظفي الاستقبالِ، فتجلسُ في قاعة التشريفاتِ في انتظار الإذنِ بالدخولِ، وإذا الناسُ كأنَ على رؤوسِهم الطيرَ، الأجسادُ خاشعةٌ، والقلوبُ واجفةٌ، الحركةُ موزونةٌ، والكلامُ موزونٌ، فالصوتُ أصبحَ همساً، والضَّحكُ صارَ بَسماً، وإذا بالبابِ يُفتحُ، ويأذنُ مسؤولُ المراسمِ الملكيةِ بالدخولِ، فلا تستطيعُ المشاعرُ أن تتخيَّلَ سعيدَ الأوقاتِ، ولا اللسانُ أن يصفَ تلكَ اللحظاتِ، وقد تكونُ تلكَ الزيارةُ هي الأولى والأخيرةُ في حياتِكَ، فكيفَ تَستثمرُها؟
والآن أخبروني عن الدَّعوةِ التي توجَّهُ لنا كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، لزيارةِ ديوانِ ملكِ الملوكِ، فينادي منادي الدِّيوانِ: حيَّ على الصَّلاةِ، حيَّ على الفلاحِ، فما هي مشاعرُكَ؟، ما هو استعدادُكَ؟، أخبرني عن أناقتِكَ وملابسِكَ؟، كيفَ هي سرعةُ استجابتِك؟
أخبروني عن أحوالِنا في تعظيمِ بيوتِ اللهِ -تعالى-، فتعظيمُ المساجدِ من تعظيمِ شعائرِ اللهِ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]، هل إذا دخلَ أحدُنا المسجدَ يتواضعُ للهِ -تعالى-؟، لأنَّه في بيتِ مَلِكِ المُلوكِ، هل يستحي من الملائكةِ الكِّرامِ؟، هل الجوارحُ تخضعُ؟، هل القلوبُ تخشعُ؟، هل نستشعرُ أنَّنا في بيتِ العظيمِ العزيزِ، وأنَّه لا ينبغي لأحدٍ فيه أن يستكبرَ على أحدٍ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يرى نفسَه أفضلَ من أحدٍ، بل الكلُّ عبيدٌ متساوونَ في هذا المكانِ، جاءوا يرجونَ ما عندَ اللهِ من الرَّحمةِ والإحسانِ، فهل ترى السَّكينةَ والخُضوعَ للهِ القويِّ الرَّحمنِ؟
المساجدُ فيها يُعبَدُ اللهِ ويُوحَّدُ، وفيها يُعظَّمُ اللهُ ويُمجَّدُ، وفيه يُركَعُ للهِ ويُسجَدُ، بل هي أحبُّ البِقاعِ إلى الواحدِ الأحدِ، كما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا".
في المَسَاجدُ تَتنزَّلُ فيها السكينةُ والرَّحماتُ، وتُنالُ فيها من الملائكةِ أعظمُ الدَّعواتِ، كما جاءَ في الحديثِ: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ".
في المساجدِ تُغفرُ العظائمُ والخطيئاتُ، وتُرفعُ الأجورُ والدَّرجاتُ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟، إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ".
هي البيوتُ التي أمرَ اللهُ -تعالى- ببنائها للذِّكرِ والتَّسبيحِ والقُرآنِ، يُصلّي فيها رِجالٌ قد عَمَرَ اللهُ قلوبَهم بالإيمانِ، ويخافونَ يوماً تتطايرُ فيهِ الكُتبُ ويُوضعُ الميزانُ، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:36-37].
قد تعلَّقتْ قلوبُهم في مَساجدِ الرَّحمنِ، ينتظرونَ اللَّحظةَ التي يَسمعونَ فيها الأذانَ، فيرجعونَ إلى المسجدِ وتلتقي القلوبُ بالأبدانِ، قالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ -ومنهم- وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ"، ويقولُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إنَّ اللهَ يُنادي يومَ القيامةِ: أينَ جيراني؟، أينَ جيراني؟، فتقول الملائكة: ربَّنا، من ينبغي له أن يجاورَك؟، فيقولُ: أينَ عُمَّارُ المساجدِ؟".
فحافظوا يا عُمَّارَ المساجدِ على نِظامِها ونظافتِها، فنظافةُ المسجدِ ليستْ مهمةُ عاملِ النَّظافةِ فقط، بل مهمةُ كلِّ مؤمنٍ يرغبُ في الأجرِ من اللهِ -تعالى-، كما قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حَتَّى الْقَذَاةِ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ"، واحذروا من الإسرافِ والعبثِ بالممتلكاتِ الوقفيةِ، وأعينوا المؤذنينَ والأئمةَ على ما تحمَّلوا من المسؤوليةِ، وتجاوزوا عن الهفواتِ والأخطاءِ، فإن الكمالَ أبى أن يكونَ إلا لربِّ السماءِ.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الحمدُ للهِ لا خيرَ إلَّا مِنه، ولا فَضلَ إلَّا من لَدُنه، نشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، سَمِيعٌ لِرَاجِيهِ، قَريبٌ مِمَّن يُنَاجِيه، وَنَشهَدُ أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسولُه، أتمُّ البرية خيرًا وفضلاً، وأَعلاهم منصِبًا وأجرًا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابه، ومن اهتدى بِهديهم صلاةً وسلاماً تَترى، أما بعد:
عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-، قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟، قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ لأَوْجَعْتُكُمَا؛ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، فلو كانا يعلمانِ الحُكمَ وأنَّه لا يجوزُ رفعُ الصَّوتِ في المساجدِ، لكانَ حقَّهما الضَّربُ حتى الإيجاعِ؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- كَانَ يُحَذِّرُ المسلمينَ من رَفعِ الصوتِ في المَسجدِ، فيقولُ: "وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ"، أي: ما يَكونُ في الأسواقِ من الجَلَبةِ وارتفاعِ الأصواتِ.
فلنحذرْ -عبادَ اللهِ- من إيذاءِ ضيوفِ اللهِ، فعَنْ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، إِلا كَانَ زَائِرَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ"، فتكفَّلَ اللهُ -تعالى- لأهلِ المساجدِ بالإكرامِ، فكيفَ يُؤذى ضيوفُ ذي الجلالِ والإكرامِ؟
فاستووا في صفوفِكم، ولا تختلفوا فتختلفُ قلوبُكم، وأَصْلِحُوا ذاتَ بينِكم، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً، فما بُنيتْ المساجدُ إلا للعبادةِ والجماعةِ، وما قُصدتْ إلا للاجتماعِ على المحبةِ والطَّاعةِ.
اللهمَّ اجعلنا إخوةً متحابينَ، وعلى الخيرِ متعاونينَ، اللهم اجعلنا مُقيمي الصلاةِ ومن ذرياتِنا، ربنا وتقبل دعاءً.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي