استثمار العشر الأواخر

محمد ابراهيم السبر
عناصر الخطبة
  1. سرعة مرور أيام شهر رمضان .
  2. أبواب الخيرات مازالت مفتوحة .
  3. اغتنام العشر الأواخر .
  4. سر الاجتهاد والمبالغة في العشر الأواخر .
  5. فضائل ليلة القدر. .

اقتباس

هي ليلة في ليال قليلة تُعْمَر بالاجتهاد والدعاء والقيام، قد يصيبها العبد حينما يتاجر مع الله بإخلاص فتساوي العمر كله، ومَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ. في ليالي رمضان يعيش العبد في ضيافة ربه ويجلس في رحابه، ويقضي غالب الوقت على...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والشكر لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأزواجه وصحبه ومن والاه وسلك سبيله واتبع هداه إلى يوم لقاه.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة:195].

عباد الله: ها قد مضى من الشهر العظيم أوله، ولحق به وسطه، وها نحن على مشارف آخره، وآخرُه هو خيرُهُ، ومكنونة فيه الليلة التي هي خير من ألف شهر، وها قد قارب الضيف الكريم أن يغادرنا، بعد أن جعل أرواح المؤمنين تخفق إيمانًا وخشيةً وتوبةً وخشوعًا، وأكسبَها شفافيةً ورقةً وذلةً وخضوعًا، لرَبّ كريم رحيم غفور تعاظمت فيه مِنَنه وعطاياه، وتكاثرت في أيامه مِنَحه وهداياه، فالموفَّق مَن نال مِن خيراتها النصيب الوافر.

فلا يظن أحد أن الشهر قد ضاع منه؛ فلا زالت الفرص قائمة، والأبواب مُشْرَعَة، ليستدرك المتخلّف، ويلتحق المحروم، ويستيقظ الغافل، فالعشر الأواخر رغم قلّة لياليها إلا أنها من أهم الليالي في حياة المسلم؛ حيث عظيم النفحات التي يهبها الله لعباده، بمغفرة الذنوب، وستر العيوب، والسعة في الأجر والحسنات، والسعة في الرزق، والبركة في الدنيا والآخرة.

وبعد أن عاش المسلم أيامًا كرامًا وليالي فاضلة في بداية الشهر الكريم آنَ له أن ينظر إلى ما زرع فيرعاه، وينمّيه في هذه العشر حتى يستلم الجائزة مع بزوغ فجر عيد الفطر.

ومن هنا كان الهدي النبوي في الحثّ على اغتنام ما بقي من رمضان؛ حيث الخير وعظيم الأجر؛ فقد قالت عائشة: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها". وقالت: "كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"؛ وشد المئزر كناية عن الاجتهاد في العبادة، يُقال للمجتهد في أمر: شمر عن ساقيه، كما يكنى به عن اعتزال النساء.

فهي ليالي الجد وليالي إحياء الليل، ومعنى "أحيا ليله" أي أحياه كله بالقيام والتعبد والطاعة، وقد كان قبل ذلك يقوم بعضه، وينام بعضه، كما أمره الله في سورة "المزمل". وعبّرت عائشة عن القيام بالإحياء، دلالة على أن الأوقات التي لا تغتنم في طاعة الله -تعالى- أوقات ميتة، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- العملي في العشر "إيقاظ أهله": أي زوجاته أمهات المؤمنين، ليشاركنه في اغتنام الخير والذكر والعبادة في هذه الأوقات المباركة، وبهذا يعلمنا أن يتعهد المسلم أهله وأسرته بالتذكير بمواقع الخير، والأمر به، كما قال -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)[طه:132].

ومن دلائل حرصه -صلى الله عليه وسلم- على الاجتهاد في العشر الأواخر اعتكافه فيها في المسجد، متفرغًا لعبادة الله -تعالى- فعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"(متفق عليه). والاعتكاف عُزلة مؤقتة عن شواغل الحياة، وإقبال بالكلية على الله -تعالى-، والأنس بعبادته.

والإسلام لم يشرع الرهبانية، ولا التعبُّد بالعزلة الدائمة، ولكنه شرَع هذه العزلة المؤقتة في أوقات معينة، لترتوي القلوب الظامئة إلى المزيد من التعبد والتجرّد لله رب العالمين.

والسر في الاجتهاد والمبالغة في العشر الأواخر يكمن في أنها هي ختام الشهر المبارك، والأعمال بخواتيمها؛ ولأن فيها ليلة القدر؛ الليلة المباركة المفضلة التي صحت الأحاديث أنها تلتمس وتتحرى فيها.

إنها ليلة نَوَّه القرآن بها في سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)[القدر:2]، وعظم شأنَ هذه الليلة، فأضافها إلى القدر أي المقام والشرف، وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيرًا وأفضل من ألف شهر. أي الطاعة والعبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وألف شهر تساوي ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر.

وهي ليلة تتنزَّل فيها الملائكة برحمة الله وسلامه وبركاته، ويرفرف فيها السلام حتى مطلع الفجر. وهي ليلة المغفرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"(رواه البخاري).

هي ليلة في ليال قليلة تُعْمَر بالاجتهاد والدعاء والقيام، قد يصيبها العبد حينما يتاجر مع الله بإخلاص فتساوي العمر كله، ومَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمَ.

في ليالي رمضان يعيش العبد في ضيافة ربه ويجلس في رحابه، ويقضي غالب الوقت على أعتابه، فلا يبرح بيته، ولا يملّ حديثه، فيفيض عليه بالراحة النفسية والبدنية، لتكون له زادًا ربانيًّا طيلة العام.

في ليالي رمضان راحة للقلوب وطهارة للنفوس، وعلاج لأسقام القلوب، وزاد على الطريق. فاللبيب الكيس من اجتهد في هذه العشر، عسى أن يظفر بالقبول والمغفرة وحسن العاقبة.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى وسمع الله من دعا، وبعد فاتقوا الله حق التقوى.

لقد أظلتنا أيام غالية، ستمر كما مرَّ ما قبلها، لكن هل ربحت تجارتنا فيها أم خسرنا، هل ازددنا تقوى وقرباً أم بُعدنا، إن الغفلة عن هذه الليالي وتضييعها ليس من سمات العقلاء، وإنما الصالحون يهتفون دائماً: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه:84].

اللهم مُنَّ علينا بأعمال صالحة في رمضان وتقبلها منَّا، واملأ نفوسنا ثقة بك، ومحبَّة لك، وطمأنينة بذِكْرك، وأعنّا اللهم على ذِكْرك وشكرك وحُسن عبادتك.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي