كانَ النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَخُصُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بستةِ أعمالٍ لا يَعملُها في بقيةِ الشهر: أولها: أنه كان صلى الله عليه وسلم يُحيِي الليلَ كلَه. ثانيًا: كان صلى الله عليه وسلم يوقظُ أهلَه للصلاةِ في لياليْ العشرِ دونَ غيرِه من الليالي. ثالثًا: كان صلى الله عليه وسلم يَشدُ المئزرَ؛ باعتزالِهِ...
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعدُ: فما أعظمَ فضلَ اللهِ علينا! وما أجلَ كرَمَه سبحانَه! فها قدْ أقبلَتْ خيرُ ليالي السنةِ على الإطلاقِ، حيثُ ستبدأُ بغروبِ شمسِ يومِ الأحدِ.
وقد كانَ النبيُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَخُصُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بستةِ أعمالٍ لا يَعملُها في بقيةِ الشهر: أولها: أنه كان صلى الله عليه وسلم يُحيِي الليلَ كلَه.
ثانيا: كان صلى الله عليه وسلم يوقظُ أهلَه للصلاةِ في لياليْ العشرِ دونَ غيرِه من الليالي.
ثالثا: كان صلى الله عليه وسلم يَشدُ المئزرَ؛ باعتزالِهِ النساءَ لقولِه تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)[البقرة: 187]، فكانَ يَعتزلُ نساءَه في العشرِ الأواخرِ؛ ليتفرغَ لطلبِ ليلةِ القدرِ.
رابعا: تأخيرُه للفطورِ إلى السحورِ، وهذا خاصٌ بهِ صلى الله عليه وسلم.
خامسا: اغتسالُه بينَ العشاءَين، قال ابنُ جريرٍ: "كانوا يَستحِبونَ أن يَغتسلُوا كلَ ليلةٍ من لياليْ العشرِ الأواخرِ".
سادسا: الاعتكافُ في العشرِ؛ ليَطلُبَ فيها ليلةَ القدرِ، وهذا الاعتكافُ هو الخلوةُ الشرعيةُ.
وأما العملُ في ليلةِ القدرِ؛ فإنما هوَ إحياؤُها بالتهجدِ فيها، والصلاةِ، وبالدعاءِ، قال سفيانُ الثوريُ: "الدعاءُ في تلك الليلةِ أحبُ إليَّ من الصلاةِ، وإذا كانَ يقرأُ وهو يدعو، ويَرغبُ إلى اللهِ في الدعاءِ والمسألةِ؛ لعله يُوافِقُ"، ومرادُه: أن كثرةَ الدعاءِ أفضلُ من الصلاةِ التي لا يُكثَرُ فيها الدعاءُ، وإن قرأَ ودعا كانَ حَسنًا.
وقد كان النبيُ -صلى الله عليهِ وسلم- يقرأُ قراءةً مرتلةً، لا يمرُ بآيةٍ فيها رحمةٌ إلا سألَ، ولا بآيةٍ فيها عذابٌ إلا تعوّذَ، فيَجمعُ بين الصلاةِ، والقراءةِ، والدعاءِ، والتفكرِ. وهذا أفضلُ الأعمالِ، وأكملُها في ليالي العشرِ وغيرِها، وقد قالَ الشعبيُ عن ليلةِ القدرِ: "ليلُها كنهارِها"، وقالَ الشافعيُ: "أَستحِبُّ أن يكونَ اجتهادُه في نهارِها كاجتهادِه في ليلِها" قال ابنُ رجبٍ: "وهذا يَقتضي استحبابَ الاجتهادِ في جميعِ زمانِ العشرِ الأواخرِ، ليلِهِ ونهارِهِ، واللهُ أعلمُ.
وفي العشرِ يَطيبُ الدعاءُ والتذللُ والانطراحُ والإلحاحُ بينَ يديِ اللهِ بالدعاءِ: "واللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ"، بلْ ويحبُ البكاءَ أو التباكيَ عندَ الدعاءِ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55]، (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً)[الأعراف: 205]، فخَصَ الدعاءَ بالخُفْيَةِ وخَصَ الذكرَ بالخِيْفَةِ.
الحمدُ للهِ الداعِيْ إلى جَنتهِ، وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ.
أما بعدُ: فيا كُلَّ مَنْ كانَ يعملُ عملاً صالحًا لكن منعَتْهُ جائحةُ كورونا من مُواصَلَتِهِ: أبشرُوا واحتسِبُوا بأن اللهَ يأجُرُكمْ على ما فاتَكُمْ. ألمْ تقرؤُوا قولَ ربِنا: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[التوبة: 121]؟ ألم تعلمُوا أن رَسُولَنا -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا"(رواه البخاري).
فيا مَنْ كنتمْ تعتمرونَ رمضاناتٍ متتالياتٍ! يا مَنْ كنتمْ تختمونَ بالمساجدِ خَتَماتٍ! يا مَنْ اعتدتمْ الاعتكافَ في كلِ العشرِ! يا مَنْ أمضيتُمْ سنينَ متواصلةً تُفطِّرونَ بالمساجدِ وبالجمعياتِ! أيا سُقاةَ الماءِ للمصلينَ والصائمينَ: لئنْ فاتتكمْ الأعمالُ والتطوعاتُ فما فاتتْكُمُ الأجورُ بقدرِ النياتِ، فاحتسبُوا ذلك كلَه لكم عندَ اللهِ، والله لا يُضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عَمَلاً.
فلا تَضجَرُوا واعمَلوا بتعليماتِ الدولةِ الوقائيةِ والدوائيةِ والتنظيميةِ التي هيَ مِن مصلحتِنا؛ لينحسرَ الداءُ، ونعودَ لسالفِ عهدِنا، بل للأفضلِ بفضلِ اللهِ -تعالى-، واعتبِرُوا وقارِنُوا حالَنا في رمضانَ الفائتَ، ثم توسعتَه سبحانَه علينا رمضانَ الحاضرَ، فأبشِروا وأمِلوا منْ ربٍ كريمٍ خيرًا: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)[الأحزاب: 47].
فسبحانَكَ ربَنا ما عبدناكَ حقَ عبادتِكَ، سبحانَك ما قَدَرناكَ حقَ قدرِكَ.
اللهمَ إنا عاجِزونَ عن شُكركَ، فنُحيلُ إلى علمِكَ وفضلِكَ.
اللهمَ أعنَّا على أنْ نشكُرَكَ على لُطفِكَ في بلائِكَ، وأن علمتَنا سبيلَ دفعهِ، ورفعهِ.
اللهم إن ذنوبَنا قد عظُمتْ، وإنها صغيرةٌ في جنبِ عفوِك، فاعفُ عنا يا عفوُ.
اللهم ارضَ عنا، فإن لم ترضَ عنا فاعفُ عنا.
اللهمَ باركْ في أوقاتِنا وأقواتِنا، وحسِّنْ أخلاقَنا، وبارِكْ أرزاقَنا.
اللهم ارحمْنا ولا تَحرِمنا. اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أَشْقِياء، وَكُنْ بِنا رَؤوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.
اللهمَ ارحمْنا ووالِدِينا، واحفظْ دينَنَا وأعراضَنا وأولادَنا وصحتَنا.
اللَّهُمُّ وَآمِنْ ديارَنَا، وَاِجْمَعْ عَلَى الْهُدَى شُؤُونَنَا، وَاِقْضِ اللَّهُمَّ دُيونَنَا وَاشْفِ مَرْضَاَنَا، وَارْحَمْ مَوتَانَا، وَاِرْفَعْ عَنَا البَلاءَ وَالْوَبَاءَ.
اللهم واحفظْ دينَنَا وأعراضَنا وأولادَنا وصحتَنا.
اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِ إمامَنا ووليَ عهدِه، وأعزَّهم بطاعتِك، وأعزَّ بهم دينَك، وارزقهُم بطانةً صالحةً تدلُّهم على الخيرِ وتعينُهم عليهِ.
اللهم احفظْ جنودَنا في حدودِنا، واشفِ مرضاهم، وارحمْ موتاهم.
اللَّهُمَّ صَلِّ وسلمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَاةً تَرْضَاهَا منَّا، وتُؤَدِّي بِهَا حَقَّهُ عَنَّا.
([1])لطائف المعارف لابن رجب (ص: 184 - 189)
([2])لطائف المعارف لابن رجب (ص: 204)
([3])بدائع الفوائد (3/ 10)
([4])صحيح البخاري (2996 )
([5])لطائف المعارف لابن رجب (ص: 206)
([6])معجم ابن المقرئ (ص: 289)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي