كتابٌ لا يعدِلُه كتاب، وهو أحسنُ الحديث وأفضلُه، وحفِظَه الله قبل إنزاله، وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله، وقدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه، ووصفَه الله بالعظمة، وكتبَ الله له العلُوَّ في ذاته وقدره، وفيه هدايةُ الخلق، ومع الهداية فيه الرحمة، مجيدٌ بالغٌ في الشرف أعلاه، وهو...
الحمد لله ولي المؤمنين، (نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف: 196]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته، ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين.
أما بعد: فاتَّقوا الله -أيها المؤمنون- حقَّ التقوى، وراقِبوه في السرِّ والنجوَى.
ربُّنا -سبحانه- كاملٌ في ذاته وأسمائِه وصفاتِه، لا كُفؤ له ولا مثيل، وصفاتُه أكملُ الصفات وأحسنُها، يتكلَّم متى شاء، إذا شاء بما شاء، ولا مُنتهى لكلماته: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)[الكهف: 109].
كلامُه أحسنُ الكلام، وفضلُ كلامه على كلام الخلق كفضلِ الخالقِ على المخلُوق.
القرآنُ كلامُ ربِّ العالمين تكلَّم به حقيقةً بحرفٍ وصوتٍ مسمُوعَين، منه بدأ وإليه يعودُ في آخر الزمان، سمِعَه جبريلُ -عليه السلام- خيرُ الملائكة من الله، ونزل به على خير الرُّسُل في أشرف البِقاع، وفي خير شهرٍ، وفي خير الليالي ليلة القدر: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القدر: 1].
كتابٌ لا يعدِلُه كتاب: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)[العنكبوت: 51].
هو شرفٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأمته: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ)[الزخرف: 44].
هو أحسنُ الحديث وأفضلُه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)[الزمر: 23].
من ابتعدَ عنه كان حيًّا بلا حياة: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا)[الشورى: 52].
لو أنزلَه الله على جبلٍ لخشعَ وتصدَّع ذلاًّ لله وطاعة.
حفِظَه الله قبل إنزاله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)[البروج: 21-22].
وتكفَّل بحفظِه بعد نزوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].
قدَّمه الله في الذكر على كثيرٍ من نعمه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ)[الرحمن: 1-2].
علَّم الله عبادَه القرآن ويسَّره لهم تلاوةً وعملاً وحفظًا، يحفظُه العربيُّ والعجميُّ، والصغيرُ والكبيرُ، والذكرُ والأنثى، والغنيُّ والفقيرُ.
وصفَه الله بالعظمة: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر: 87].
وكتبَ الله له العلُوَّ في ذاته وقدره: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)[الزخرف: 4].
كريمٌ عند الله، فيه من المكارِم أعلاها: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[الواقعة: 77].
فيه هدايةُ الخلق، ومع الهداية فيه الرحمة: (هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 52].
عصمةٌ من الضلال لمن تمسَّك به "تركتُ فيكم ما لن تضلُّوا بعده إن اعتصمتُم به: كتاب الله"(رواه مسلم).
مجيدٌ بالغٌ في الشرف أعلاه: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)[ق: 1].
عزيزٌ لا يُجارِيه في عزِّه شيء، ومن دنا منه نالَه العزُّ: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ)[فصلت: 41].
عالٍ لا يُدانَى، كثيرُ الخير والمنافِع، ووجوه البركة فيه: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)[الأنعام: 92].
كتابُ الله نورٌ لإبصار الدنيا والآخرة: (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ)[المائدة: 15].
شفاءٌ لأمراض الأبدان؛ لدغَت عقربٌ رجلاً في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقُرئَ عليه سورةُ الفاتحة فبرأَ (أخرجه البخاري).
هو موعظةٌ وتثبيتٌ للقلب عند الفتن والمصائِب والمصاعِب: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)[الفرقان: 32].
تلاوتُه تزيدُ في الإيمان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الأنفال: 2].
هو التجارةُ الرابحةُ المُضاعفَة: "من قرأَ حرفًا منه فله حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالها".
آياتُه أبكَت العظماء؛ قرأ ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة النساء، فبكى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعلت عيناه تذرِفان.
كان أبو بكرٍ -رضي الله عنه إذا قرأَ القرآنَ لا يكادُ يُسمِعُ من خلفَه من البكاء.
طاف عمر -رضي الله عنه- بالمدينة ليلة فسمع رجلاً يقرأ في بيته: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ)[الطور: 7-8]، فبكى عمر -رضي الله عنه- ورجع إلى بيته، وعاده الناس أياماً.
وقرأَ جعفرُ الطيارُ -رضي الله عنه- على النجاشيِّ سورة مريم، فبكَى النجاشي حتى أخضلَ لحيتَه، وبكَى أساقِفتُه حتى أخضَلوا مصاحفَهم.
سمع جبير بن مطعم -رضي الله عنه- وهو مشرك آيات من سورة الطور فكاد قلبه أن يطير.
الصوت الحسن فيه هبة من الله؛ كان داود -عليه السلام- إذا قرأ الزبور تقف الطيور على الجبال تستمع وتجاوبه: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)[سبأ: 10].
كان عليه الصلاة والسلام يأتي بيت أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فيستمع لقراءته، ويقول: "لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَكَانَ عُمَرُ -رضي الله عنه- إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ أَبُو مُوْسَى -رضي الله عنه- قَالَ لَهُ: "ذَكِّرْنَا يَا أَبَا مُوْسَى، فَيَقْرَأُ".
ومُعلِّم القرآن ومُتعلِّمه هم خيرُ الناس: "خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه".
لم ينقطع الصحابة عن تعليم القرآن حتى بعد أن تقلدوا المناصب، وَلَّى عُمَرُ -رضي الله عنه- أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ؛ فَأَسَّسَ فِيهَا حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الْأَمِيرُ، قَالَ أَنَسٌ -رضي الله عنه- بَعَثَنِي أبو موسى الأَشْعَرِيُّ -رضي الله عنه- إِلَى عُمَرَ -رضي الله عنه- فَقَالَ لِي عمر: "كَيْفَ تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ النَّاسَ القُرْآنَ".
مَكَثَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- لِإِقْرَاءِ النَّاسِ القُرْآنَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
يا أيها الناس جميعا: عايشوا القرآن في بيوتكم، يملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، ويملأ صدوركم إيماناً، ويقيناً، وخيراً وبراً، ويملأ مسيرتكم إشراقاً وفلاحاً ونجاحاً..
استغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إني ربي رحيم ودود.
الحمد لله ولي المؤمنين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إن للقرآن لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت: 42].
القرآن عزيز، لا ينال حفظه وضبطه إلا من بذل الغالي من وقته، وضحى بعمره.
أتَطمعُ أنْ تَرى غَرْساً وتَهْفُو *** إلى ثَمَراته قَبْل الغِرَاس محال
فمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمنِّي *** ولَكنْ القِ دَلوَك فِي الدِّلاءِ
من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه.
لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها، إلا في تعلم القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار: "أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ"، و "الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البرَرة".
مجالسُ القرآن ومواطِنُ تعلُّمه مظانُّ تنزُّل السكينة والرحمة على مُعلِّميها والمُتعلِّمين: "ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".
حاملُ القرآن مُكرَمٌ في حياته وبعد مماته؛ ففي الحياة: "يؤمُّ القومَ أقرأُهم لكتاب الله"، وبعد الوفاة: كان عليه الصلاة والسلام يجمعُ بين الرجُلَين من شُهداء أُحُد، ويسألُ: "أيُّهم أكثرُ أخذًا للقرآن؟" فيُقدِّمُه في اللَّحد (رواه البخاري).
وأهلُ القرآن خيرُ جليسٍ للمرء "كان القُراء أصحاب مجالس عُمر ومُشاورته".
أسعدُ الناسِ أقربُهم من كتاب الله، وهو شرفُ وسُؤدَدُ المُسلمين، ورُقيُّ وفخرُ الأجيال، وهو أمانٌ للمُجتمع وبركةٌ عليه، وفيه الأُنسُ والرِّفعةُ ورِضا رب العالمين.
وفي المقابل: الإعراض عن القرآن، وعدم تحكيمه في ميادين الحياة نكسة للأمة، وتضييع لمواردها، وضيق في معيشتها: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[طـه: 124]، وتنحيةُ مبادئهِ وأخلاقهِ وقيمهِ تُسَيرُ الأجيال كالأنعام، (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف: 179].
ضل الذي يهجر القرآن مجتديا *** منهاجه بغرور من أعادينا
لسنا نريد دساتيرا مرقعة *** فشرعة الله تكفينا وترضينا
آياته بالهدى والعدل قد نطقت *** تضفي على الحق إيضاحًا وتبيينا
لا يُنالُ الأمنُ والرخاء، ولا يعز شأن الأمة، ولا يرفع اقتصادها ويهذب أخلاقها إلا القرآن تلاوةً وعمل به وتحكيمًا ونشْرا، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "لما كانت خلافةُ عُثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارِق الأرض ومغارِبِها، وكثُرت خيراتها، وذلك ببركة تلاوته ودراسته، وجمعه الأمة على حفظ القرآن".
هذا هو عزنا ومجدنا فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي