فكَمْ مِنْ عابدٍ أسْرَجَ مصباحَ العبادةِ في أولِ العمرِ مجتهداً، ضَعُفَت نَفْسُه عَنْ مُوَاصَلَةِ المسيرِ، فَخَبَا فيه النورُ وانطفأ، وكمْ مِنْ مستقيمٍ على أمر الله مُهتدياً، ضَعُفَت نفسُه عن مواصلةِ المسيرِ، فانساقَ نحو الهوى فتنكَّبَ الدربَ وانكفأ، وكَمْ مِنْ مُعرِضٍ في بدايةِ الأمرِ عن الله، سالكاً دربَ الغوايةِ، سائراً في الغافلين.. تداركَهُ الله بلطْفِه.. فجددَ العزم وأحسن القصدَ وأناب إلى الله والتجأ....
أيها المسلمون: حياةُ الإنسانِ مبتدأٌ وخبر؛ مبتدأٌ تنطَلِقُ منه، وخبرٌ تنتهي إليه. تبتدئُ حياةُ الإنسانٍ من بدايةٍ معلومة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)[غافر:67]، ثم ينطلقُ كلُّ إنسانٍ بعدها في مسيرةِ الحياةِ إلى نهايةٍ قَدْ غَيَّبها الله عنه (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[غافر:67]، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان:34].
وفي مسالِكِ الحياةِ.. قد يتعثر الإنسانُ في بعضِ بداياتِها، قد يتعثر في طريق العبودِيةِ فيسير في دروبِ الهوى، وقد يتعثر في طريق طلبِ الرزق فيتردى في مزالقِ الخسائرِ، وقد يتعثر في مطالِبَ شتى يسعى إلى تحقيقها، فيبوء منها بالعجزِ والحرمان.
ولكنَّ العاقِلَ المؤمنَ الفَطِن لا يزالُ يستصحِبُ العزمَ ويرتَحِل الأمل. ويأخذُ بالأسبابِ ولا يقطع الرجاء. فإذا ما تعثر نهض، وإذا ما أخفَقَ تدارك، وإذا ما قَصَّرَ نَدِم، وإذا ما أذنبَ تاب. يسعى حثيثاً راجياً؛ علَّه يبلُغَ النهايةَ المُشرِقة، وينتهي إلى العاقبةِ المحمودة. فهو في أمورِ دنياهُ مجتهداً، وهو في أمور دينِه أشدَّ اجتهاداً؛ يدرِكُ أن العبرَةَ في كُلِّ أمرٍ بكمالِ النهاياتِ لا بنقص البدايات.
فَتَرَاهُ كُلَّما تقدم به العُمرُ يوماً.. ازدادَ من عمل الصالحات، وكلما تَرَحَّلَت من حياتِه مرحلةٌ. تَيَقَّظ ضميرُه، وتوقدَ نشاطُه، وتضاعفت هِمَّتُه (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[الأحقاف:15].
اجتهد أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: لو أَمْسَكْتَ وَرَفَقْتَ بِنَفْسِكَ بَعْضَ الرِّفق! قال: "إنَّ الخيلَ إذا أُرْسِلَتْ فَقَارَبَتْ رأسَ مَجْرَاها أخْرَجَتْ جَمِيْعَ ما عِنْدَها، والذي بقي من أجلي أقلُّ من ذلك".
عباد الله: إن تجديدَ العزمِ، وإيقاظ الهمةِ، وتداركَ العثرةِ، من أرقى أخلاقِ النجباء، ومن أكرمٍ مسالِكِ الفائزين. وإن التواني والفتور، والضعفَ والكسل، والتراخي والوهن. وَضَعْفَ العزمِ، والعجزَ عن المثابرةِ في طريقِ المكرمات. من أبرز سماتِ القاعدين المُخَلَّفين.
وفي مواسمِ الجِدِّ وفي شهر المضاعفةِ، وفي أيامِ العطاءِ وفي الليالي المُباركة.. ميزانُ عدلٍ لمعرفةِ قويِ العزمِ عالي المطالبْ. شهرٌ ممتدٌ تتنوعُ فيه القُرباتُ.. ما بين صيامٍ وقيام، وذكرٍ وقراءةٍ قرآن، وبذلٍ وإطعامٍ للطعام. ولكنَّ بعضَ النفوسِ مع طولِ العهدِ قد يعتريها الملل وتغشاها السآمة، فتفتر عزماتُها. فتتراخى عن الجِدِّ في المسيرِ وعن المسارعة في الخيرِ وحُسن العملِ.
ولما كانت الأعمالُ بالخواتيم، وتحقيقُ السبقِ لا يكونُ إلا في خاتمةِ المطاف. جعل اللهُ أكرمَ ليالي الشهرِ أواخرها، وبَيَّنَ للعبادِ جُلَّ فضائلها، أودعَ فيها ليلةً عظيمةً قال في التنزيلِ عنها (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر:2-5].
هُنا.. تَنْهَضُ الِهمَمُ، وَتَتَوَقَّدُ العزائمُ، وترتفع راياتُ المتنافسين، وتقومُ سوقُ السابقين (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الذاريات:17-19]، وما يُهدى لكريمِ العملِ في مواسمِ العطاءِ إلا الموفقون.
يُدركُ المسلمُ أن شمسَ رمضانَ قد تَضَيَّفَت لِغُرُوب. وأن هلالَ شهرِه قد تَقَلَّبَ في منازِلِه حتى عادَ كالعرجون القديم.
فيقفُ المسلمُ على أعْتابِ الشهرِ متأملاً.. فإن كان فيما مضى أحْسَنَ.. ضاعفَ في إحسانه، وإن كان فيما مضى قَصَّر.. أقصَرَ عن التقصير وتداركَ، ليظفرَ بجميلِ العاقبةِ وحُسنِ المنقلب.
إنها خاتمةُ كُلِ مطاف، ونهايةُ كُلِ مسعى.. فيها ترتفعُ راياتُ السابقين، وتَتَنَكَّسُ فيها أعلامُ المغلوبين، وإنها الأعمالِ بالخواتيم، فكَمْ مِنْ عابدٍ أسْرَجَ مصباحَ العبادةِ في أولِ العمرِ مجتهداً، ضَعُفَت نَفْسُه عَنْ مُوَاصَلَةِ المسيرِ، فَخَبَا فيه النورُ وانطفأ، وكمْ مِنْ مستقيمٍ على أمر الله مُهتدياً، ضَعُفَت نفسُه عن مواصلةِ المسيرِ، فانساقَ نحو الهوى فتنكَّبَ الدربَ وانكفأ،
وكَمْ مِنْ مُعرِضٍ في بدايةِ الأمرِ عن الله، سالكاً دربَ الغوايةِ، سائراً في الغافلين.. تداركَهُ الله بلطْفِه.. فجددَ العزم وأحسن القصدَ وأناب إلى الله والتجأ.
حَدَّثَ ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه- حديثاً عظيماً فقال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق، إلى أن قال: "فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا"(متفق عليه).
ألا لا يَغْتَرَّنَّ عاملٌ بعملِه، ولا لا يُعْجَبَنَّ مستقيمٌ باستقامته، وليسأل اللهَ الثباتَ وحُسنِ الختام، ألا لا يَقْنَطَنَّ مُسرِفٌ من رحمةِ ربِه وليسألُ اللهَ كريم الإحسان.
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران:9].
بارك الله لي ولكم..
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسول النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً.. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: وفي خاتمةِ الشهرِ.. يَختمُ المسلمُ أعمالَه بما ابتدأَها به.. بِحُسْنِ ظنهِ بالله، وعظيمِ رجائه، وعدمِ اليأسِ من رَوْحِهِ ورحمِتِه.. فإن الله رحيمٌ كريم، شاكرٌ عليم، يقبلُ العملَ الصالحَ اليسير، فيجزي عليه العطاء الوافرَ الكثير.
فمن تقرب إلى الله بالصالحاتِ واجتهد، فليملأ قلبَهُ طمأنينة ورجاءً، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فَمَنْ جاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261]، وليس من إحسانِ الظنِ بالله أن يُصِرَّ العبدُ على ارتكاب الآثامِ، ثم يطمع أن يوفَّى في الآخرةِ ثوابَ العاملين، وجَنَّةُ اللهِ لا تُنالُ إلا برحمته، وصالحُ الأعمالِ سببٌ لنيل هذه الرحمة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:156].
عباد الله: وفي خِتام الشهر وعند إكمال العدة، شَرع الله لعبادِه عباداتٍ يتقربون بها، ليوفيهم أجورهم ويزيدَهم من فضله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185]، فمن ذلك زكاة الفطر، وهي صدقة واجبة عن الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقطٍ أو صاعاً من زبيب، يخرجها الرجل عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم، تدفع للفقراء والمساكين خاصة وليست لسائر أصناف أهل الزكاة، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "طُهرةٌ للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين"، وأفضل وقتها أن تؤدى قبل خروج الناس لصلاة العيد، ويجوز أن تؤدى قبل العيد بيومٍ أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، ويجوز أن تعطى زكاة الواحد لعدد من الفقراء، كما يجوز أن تعطى زكاة الجماعة لفقير واحد.
ويومُ العيدِ.. هو يومُ فرحٍ يستركُ فيه عمومُ المسلمين في أقطار الأرض، ففيه يظهرُ المسلمون أُنسهم وبهجتهم، مغتبطين بما أتم الله عليهم من النعمة بإتمام العبادة، وقد أُمِرَ الرجالُ والنساءُ بالخروج لصلاة العيد، قالت أم عطيةَ -رضي الله عنها-: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحُيّض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"(متفق عليه).
ويسنُّ للمسلم أن يأكل تمراتٍ قبل أن يخرج للمصلى، وإذا خرج من بيته يَشرع بالتكبير حتى يدخل الأمام. والواجب على المرأةِ أن لا تخرج متبرجةً ولا متعطرةً ولا متزينةً بزينة ظاهرةٍ للرجال، وعلى وليّها أن يفقّهها في ذلك.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي