ما أجمل تورُّع المسلم وهو يسأل عن قطرة العين في الصيام!، لكن الأجمل أن تحفظ هذه العين عن النظر إلى ما حرَّم الله، وما أحسن تورع المسلم وهو يسأل عن سقوط شعرات في العشر، لكن الأعظم أن يكون مع هذا شعور بتعظيم الله وتعظيم شعائره. إن الفصل بين العبادة وشؤون الحياة هو هدف أعداء الدين من مستعمرين ومستغربين؛ فهم ينشدون جيلاً يصلي في المسجد ولا يجد حرجًا في الفواحش، ....
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، والحمد لله الذي جعلنا من خير أُمة، وهدانا إليه صراطًا مستقيمًا، والحمد لله الذي لم يزل بنا رحيمًا كريمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله كفى به ربًّا عظيمًا حليمًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وصفوته من خلقه من كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن كان على سنته ثابتًا ومقيمًا وسلم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون والمسلمات: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية واتقوا ربكم وقولوا قولاً سديدًا.
يا أيها الصائمون والصائمات، ويا أيها القائمون والقائمات: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم.
سلام عليكم فربكم وعدكم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض، وما كان الله ليضيع إيمانكم، ووعدكم جنته بثمارها وأنهارها وشرابها وحورها وظلالها وآنيتها وعيونها وقال بعدها: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا)[الإنسان:22]؛ فيا هنيئًا لمن صام وقام إيمانًا واحتسابًا؛ فغُفِرَتْ ذنوبه وتقبلت أعماله، وصلح حاله ومآله، ويا خيبة مَن مضى رمضان فلم يُغْفَر له.
يا معشر الصائمين والصائمات: لكم البشرى، إن ربكم لرؤوف رحيم وإنه بعباده لطيف خبير، ولن يضيع إيمانكم.
هنيئًا لكم يوم أن كان شعاركم (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[البقرة:285]، دعيتم إلى الصيام فصمتم ورغبتم في القيام فقمتم، عمرتم شهركم بالقرآن، وسابقتم إلى البذل في كل ميدان.. هنيئًا لكم فأنتم مَن قدَّر الشهر قدره، وأنتم مَن ينشد فضله وأجره.
يا معشر الصائمين والصائمات: للصائم فرحتان، واليوم تتذوقون أولاهما عند فطركم، وأبشروا -بإذن ربكم- بالأخرى عند لقاء ربكم.
هنيئًا لكم فقد بعثتم الأمل في النفوس اليائسة، وأحييتم التفاؤل في القلوب القانطة والتي ترى جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة، وتنظر بعين إلى مظاهر القلة المتمردة على أحكام الدين والمتلطخة بغبار الشهوات ودنس الشهوات.
لقد أظهرتم صورة المجتمع الرائعة، وجليتم صفحة الناس الناصعة فيشهد رمضان صورًا مشرقة من الخيرية والإيجابية حتى ممن كنا نعدهم من المقصرين غيرةً على الدين ودفاعًا عن المبادئ والقيم وإقبالاً على العبادة وتنافسًا على البذل والعطاء.
تراهم صفوفًا في المساجد تعلوهم الهيبة، ويزيّنهم الخشوع ويجمّلهم البكاء.. ونساء صالحات قانتات تزينت المساجد بوجودهن وتعطرت فرشها بدموعهن.. الدين شعارهن، والحجاب فخرهن، والحياء عزهن ورمزهن، والغيرة على الدين سَمْتهن.
لقد أعلنتم بأفعالكم أن هذا الدين متين، وهو جد ليس بالهزل، وأن الجد والقوة لا تنافي اليسر، ولكنها تنافي التمييع، ولا تنافي سعة الأفق، ولكنها تنافي الاستهتار، ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون الواقع هو الحكم في شريعة الله، فهو الذي يجب أن يظل محكوماً بشريعة الله.
لقد أظهرتكم بصوركم المشرقة خيرية هذه الأمة، وأن رياح التغيير وعواصف الانفتاح لا تزيدها إلا ثباتًا ورسوخًا، وأنها لو تلوثت بشيء من غبار الذنوب والجفاء؛ فسرعان ما ينجلي الغبار بوخزة ضمير أو موعظة واعظ أو كلمة ناصح أو موسم عبادة مبارك.
يا أيها المؤمنون والمؤمنات: الصيام يبلغكم السلام ويهنئكم على بلوغ التمام ويشكركم على مظاهر التعظيم والاحترام وأسئلة المستفتين تشعرك باهتمام الناس بالصيام وحرصهم على الكمال والتمام.
وإن المسلم ليسعد بهذه الروح الحساسة تجاه عبادة ربها، ويُسَرّ بتلك المواقف التي ترسم صور الاهتمام ومظاهر الاحترام؛ فبارك الله في هذه النفوس المؤمنة والقلوب المخبتة (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)[الحج:34-35].
وإننا إذ نحمد الله على بقاء هذا الشعور؛ فإننا نُذَكِّر كُلّ مسلم ومسلمة أن العبادات لها غاية ومغزى، وهو أن يكون المسلم عبدًا لله في كل مكان وزمان (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:162].
إنه لا يصح من مسلم أن يكون في المسجد عبدًا لله وفي خارجه عبدًا لشهواته وهواه؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وغاية الصيام تحقيق التقوى، والصدقة بها تتزكون وتتطهرون، و"من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، و(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة:197]، ورب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، فالدين منهج حياة متكامل ولا فصل في الإسلام بين الدين والدنيا.
ما أجمل تورُّع المسلم وهو يسأل عن قطرة العين في الصيام!، لكن الأجمل أن تحفظ هذه العين عن النظر إلى ما حرَّم الله، وما أحسن تورع المسلم وهو يسأل عن سقوط شعرات في العشر، لكن الأعظم أن يكون مع هذا شعور بتعظيم الله وتعظيم شعائره.
إن الفصل بين العبادة وشؤون الحياة هو هدف أعداء الدين من مستعمرين ومستغربين؛ فهم ينشدون جيلاً يصلي في المسجد ولا يجد حرجًا في الفواحش، جيلاً يصوم عن الطعام والشراب لكنه لا يتورع عن الفسوق والعصيان!! جيلاً يصلي ويصوم ويتقبل الربا والتبرج والاختلاط.
إنها سياسة سنَّها قوم شعيب حينما قالوا له (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود:87]، فهم يستنكرون أثر الصلاة في سلوكهم واقتصادهم ومعاملاتهم. وهو منطق دعاة الشهوات اليوم والذين يتساءلون في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟، ما للإسلام والعري؟، ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟، ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟، ما للإسلام وتناول كأس الخمر لإصلاح المزاج؟، ما للإسلام والقوامة؟ ما للدين وشؤون الأسرة ما للإسلام وهذا الذي يفعله "المتحضرون"؟
يا أيها المسلمون والمسلمات: لتكن العبادات الظاهرة مشعلاً يهدينا ونورًا يقودنا إلى كل سلوك حَسن وتعامل أجمل في علاقتنا مع الله ومع عباد الله؛ فالمصلي في مسجده أمين في متجره، لطيف مع جاره، صادق في تعامله، حريص في وظيفته، والصائم عن الطعام عفيفٌ عن الحرام، غاضّ لبصره حافظ لفرجه، وهكذا تثمر العبادة وتزهر الطاعة وينشأ جيل يتمثل العبودية الحقة، ويحيا لله ويموت لله وحداؤه (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:162].
الله أكبر الله أكبر .. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد: فتأسيًا بهدي خير البرية في مثل هذا المقام أنقل الكلام إلى تلك النجوم المضيئة؛ التي أحيت بخشوعها وخضوعها بيوت الله في رمضان، إلى المؤمنات الصالحات القانتات اللاتي رسمن بعفافهن وحشمتهن معالم التفاؤل والأمل.
يا أيتها المسلمات: ما أجمل مشاهدكن وأنتن تقفن بين يدي الله مصليات داعيات، والأجمل أن يقترن هذا الخشوع وهذا الخضوع بتعظيم الله وتعظيم أوامره ونواهيه في الأسواق وميادين العمل وفي الأفراح والمناسبات، ما أجمل أن تتحوَّل هذا الدموع التي عطَّرت فرش المساجد إلى وقود يشعل نور الخوف من الله وخشيته ومراقبته ليكون شعار المسلمة أمام كل شبهة وشهوة (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)[الأنعام:15].
يا أيتها المسلمات: إني مذكركن أنكن رُبّان سفينة الأمن الأخلاقي، ومفتاحها بأيديكن فإما أن تتقين الله وتحفظن تلك السفينة من الغرق، أو تسلمنه لدعاة الشهوات لنغرق وتغرقن، وإنما يغرقها مَن فتحت للمتسللين من غزاة الأفكار والعقول والأخلاق ثغرات حصنها وأقفال قلعتها.
يا نساء المسلمين: إني مذكركن أنَّ مَن يزيّن لكنَّ التحرُّر من أحكام الشريعة هو من سيتبرأ منكن حينما تقع الواقعة (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)[البقرة:166].
وتذكرن أن من أرضى الناس وطلب إعجابهم بسخط الله؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس. وتذكرن أنَّ مَن حرَّم إظهار القدمين وتحريك الخلخال لا يمكن أن يبيح كشف الوجه منبع الجمال، فاتقين الله رب العزة والجلال، والثبات الثبات أمام طوفان الشهوات والشبهات فثباتكن جهاد وثباتكن عزة وشموخ، وثباتكن بوابة الدخول إلى جنة الدنيا ونعيم الآخرة.
أيا أختاه ما أبهى الخمارا *** وما أغلى الجمال إذا توارى
تسيرين الهوينى غير أني *** أرى زهوا بخطوك وانتصارا
تركت الجاهلية في اعتزاز *** وأثرت الكرامة والفخارا
وأخيرًا يا مسلمون: إذا عدتم بفضل الله لبيوتكم، فعودوا بقلوبٍ صافية، ونفوسٍ طيبة، صِلوا مَن قطعكم، وأعطوا مَن حرَمكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم.. فالعيد أعادكم الله: مناسبةٌ عظيمةٌ للتسامُح والتَّصافي، والتآلفِ والتآخي.
فليكن شعارنا:
من الآنَ تصافينا *** ويكفَي ما جَرى مِنّا
فلا كانَ وَلا صارَ *** وَلا قُلتُم وَلا قُلنا
فَقد قيلَ لَنا عَنكُم *** كَمَا قيلَ لَكُم عَنّا
نسامحُكم من الأعماق *** وأنتم فاصفَحوا عنَّا
وهيَّا إخوتي هيَّا *** نعودُ كَما كُنّا.
ألا فاتقوا الله ربكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، واهنؤوا بعيدكم، وأحسِنوا إلى خدمكم وعمالكم والوافدين إلى بلادكم أحسَنَ الله إليكم، وأدوا إلى النَّاسِ ما تحبونَ أن يؤديهِ النَّاسُ إليكم، ولا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبهُ لنفسهِ.
أبشروا باليسر بعد العسر، وبالفرج بعد الضيق، ولا تفوّتوا الفرحة بالعيد واعزموا عليها، افرحوا ولو مع أنفسكم ولها، كونوا مبتهجين ومبهجين، واحذروا أن تستحضروا في العيد مؤلم الذكريات والمواقف والمشاهد ومواضيع الخلاف ومحتقنات العلاقات، فأنتم في موطن فرح وسعادة، واعقدوا هدنة مع الحزن، ولو يوم العيد.
واعلموا أن روح العيد لا تهب السعادة لمن ينتظرها بالعبوس، وأحسنوا الظن بربكم؛ فالمصائب ليست ضربة لازب، وسيجعل الله بعد العسر يسرًا، ولا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.
أسأل الله أن يجعل أيامكم عيدًا، وأن يجعل عيدكم سعيدًا..
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي