ومما يندب لك في ختام الشهر أن تكثر من الاستغفار, فخيرُ ما خُتِمتْ به الطاعاتُ استغفارُ ربِّ الأرض والسماوات, والعملُ لن يكون على التمام, والله يجبر الخلل بالاستغفار, قال ابن القيم: "وأربابُ العزائم والبصائر أشدّ ما يكونون استغفاراً عَقِبَ الطاعات؛ لشهودهم تقصيرَهم فيها، وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمرُ لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده".
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا مزيدا.
أما بعد: تمرُّ الأيام مراً، وتمضي الشهور ركضاً، وتطوينا الأوقات طيَّا؛ نستقبل وجه الصباح فإذا بنا في المساء، ونُحَيِّي مطلع الشهر فإذا بنا في آخره.
اليوم أيها الكرام نقف في آخر جمعة من رمضان, ونودع شهراً سيعود حتماً, لكنّ منا من لن يدركه وسيموت قبل؛ فهنيئاً لمن أحسن في شهره, وأما مَن قصَّر فيه ففي شهره بقية وفيه نفَس, والأعمالُ بالخواتيم, وأشرفُ كُلِّ زمانٍ فاضلٍ آخرُه كما قرر العلماء.
أيها المبارك: وحين ترى الله وفَّقك للخير وبلّغك أواخر الشهر فلينطلق لِسانُك بحمد ربك أن وفَّقك, وللخير دلَّك, فما عملت إلا بتوفيقه, ولولا الله ما اهتديت, ولا صمتَ ولا صليت (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:83], فما هو إلا توفيق الله لك, والمنة في كل ما قدمت لله لا لك (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17] فلا تغتّر بما عملت, وإياك أن يرى الله منك إدلالاً بما تعبدت, أو إساءة بعد حَسنِ ما قدّمت.
ومع هذا فالعبرةُ في الأعمال ليست بكثرتها ولا بصُورها, بل بقَبُول الله لها, فلا تفتأ أن تسأل ربك أن يقبل صالح عملك، وأن لا يكلك إلى نفسك, والموفَّقون هم الذين يتعبّدون وهم بعد ذلك خائفون مشفقون أن تُرَدَّ أعمالُهم, ولا يُلتَفتُ لِقُرُباتِهم, قال الله عنهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:60-61].
قال علي بن أبي طالب: "كونوا لقبول العمل أشدّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله -عز وجل-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27]"، وأهلُ الجنة مِن صفتهم الخوف والإشفاق: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور:26-28]، وفي ذلك يقول إبراهيم التيمي: "ينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنّة, لأنّهم قالوا: إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين".
ومع كل هذا يا مبارك فالمؤمن يحسن الظن بربه، والله عند ظن عبده به, فيا من رفعت الأكف بالدعوات أحسن الظن بالمولى أنه سيجيبها أو يصرف عنك من السوء مثلها.
يا من قمت لله مصلياً وقضّيت نهارك صائماً كن على حُسْن الظن أن الله يقبل طاعاتك, ولا تفتأ أن تسأله القبول, واحرص أن تتصف بصفة المقبولين (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27].
أيها الكرام: وفي ختام الشهر شرع الله للعبد عباداتٍ تزيد من ثوابه وأجره, وتجبر نقص صومه, وكان من مقدم العبادات وجليل القربات في ختام الشهر: صدقة الفطر؛ شرعت على كل حي من المسلمين, الصغيرِ والكبير والذكرِ والأنثى, صاعاً من الطعام والقوت, يستغني بها الفقير وقت الفرح والعيد, ويُرضي بها العبدُ الربَّ المجيد, قال ابن عباس "فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
ويقرر جماهير العلماء أنها تُخرَج من الطعام ولا تدفع للفقير مالاً؛ إذ هكذا شرعها المصطفى -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, وهكذا أخرجها, والخير كله في اتباع هديه.
ويجمل بالمرء أن يُنوِّعَ المُخرج, فيخرج من التمر أو الزبيب أو البر, وهي أقوات نص عليها النبي -صلى اللهُ عليه وسلمَ-, وينتفع بها الفقير, وله أن يخرج من الأرز كذلك على الصحيح.
وليس للمرء أن يُؤخّرها عن صلاة العيد, وإن أخرجها قبل العيد بيوم ويومين جاز, والأحسن أن يخرجها صبيحة العيد إن استطاع.
وبعد هذه أيها الكرام وحين يُعلِنُ الشهرُ عن انصرامٍ وزوال, ويُرَى هلال شوال, يلهج المؤمنون بالتكبير في ليلة العيد, فرحاً بإتمام العدة والمهلة في العمر حتى بلوغ الختام (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].
وبعد هذا تأتي صلاة العيد, صلاةٌ أكد الرسول -صلى اللهُ عليه وسلمَ- على الجميع لحضورها, الرجال والنساء، بل وحتى العواتق اللاتي ليس من عادتهن الخروج, فكن في ذلك اليوم من المصلين, ولا تحرم نفسك الخيرات في تِلكُم الصلاة.
ومن هدي الرسول الكريم في يوم العيد أنه كان يأكل قبل خروجه لصلاة عيد الفطر تمرات, والسنة أن يكنّ أول ما يأكل, وأن يأكلهن وتراً, ثلاثاً أو أكثر من ذلك وتراً, والأفضل أن يأكلهن عند خروجه.
ومن هديه -عليه السلام- أنه كان يأتي للمسجد من طريق ويعود من طريق آخر.
ومما يندُبه العلماء للمأموم؛ أن يبادر بالخروج إلى المصلى من بعد صلاة الصبح ليحصل له الدنو من الإمام وانتظارُ الصلاة, وهو في صلاةٍ ما انتظر الصلاة.
أيها الصائم: ومما يندب لك في ختام الشهر أن تكثر من الاستغفار, فخيرُ ما خُتِمتْ به الطاعاتُ استغفارُ ربِّ الأرض والسماوات, والعملُ لن يكون على التمام, والله يجبر الخلل بالاستغفار, قال ابن القيم: "وأربابُ العزائم والبصائر أشدّ ما يكونون استغفاراً عَقِبَ الطاعات؛ لشهودهم تقصيرَهم فيها، وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمرُ لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية ولا رضيها لسيده".
وبعد معشر الكرام: فها هو الشهر عما قريب تطوى صفحته, فلا تلوموا المحزون على فراق شهره وقد عاش فيه الناس بين طاعات متنوعة, بيتهم المسجد وحداؤهم الذكر والدعاء وأنيسهم القرآن, لا تلوموهم وهم يفارقون شهراً كان نهاره صياماً وليله قياماً, وأسحاره استغفاراً.
ولئن مرّ الشهر فالمرءُ ميدان عملِه كُلُّ العمر, ومواسمُ المضاعفة ما هي إلا دافعٌ للسير, فَدُم على العمل فعما قريب ترحل أنت كما سيرحل رمضان, ولئن كانت أيام رمضان مضت فما مضت إلا وقد أخذت من عمرك.
فيا من أطاع في الشهر جد ودُم, فلقد بقي من شهرك أفضل لياليه, وها قد قارب ميدان الشهر أن يغلق, وصحائفه أن تطوى.
فيا من عصى الله في شهره ومضى الموسم وهو ما زال في تقصيره وغيِّه, يا من لها في الثلثين يا من كاد الشهر أن يرحل وهو ما زال على حاله, اسْتَدْرِكْ رَمَق شهرك الأخير, واعمل لله تَفُز بالأجر الكبير, استَدْرِك الباقي ولا تستبعد الرحمة والتوبة من الله الباقي, وأقبل على ربك بقلب مخبت منيب علّه أن يجيب دعائك ويغفر زلاتك وهو المجيب.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي