أَيَّامٌ قَلاَئِلُ تَبَقَّتْ لِتَوْدِيعِ الضَّيْفِ النَّازِلِ، مَرَّ سَرِيعًا، وَبَقِيَ مِنْ أَيَّامِهِ الْقَلِيلُ وَالَّتِي كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِيهَا مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وَكَانَ يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ تَفَرُّغًا تَامًّا؛ لِمَعْرِفَتِهِ بِفَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ، فَيَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، وَيَجِدُّ فِي الْعِبَادَةِ، وَيُحْيِي اللَّيْلَ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ، وَيَعْتَكِفُ فِيهَا لِيُوَفَّقَ لإِدْرَاكِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛....
الْحَمْدُ للهِ أَهْلِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ، وَالإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ، فَضَّلَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَخَصَّ أَيَّامَ الْعَشْرِ، وَعَظَّمَ فِيهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَأَشْكُرُهُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، نِعَمُهُ تَجِلُّ عَنِ الْحَصْرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَكْرَمُ رَسُولٍ نَزَلَ عَلَيْهِ أَشْرَفُ ذِكْرٍ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِبْرَةٌ، وَفِي تَوَالِي الأَيَّامِ وَتَسَرُّبِ الأَعْمَارِ تَذْكِرَةٌ، أَيَّامٌ تَمْضِي وَتَمُرُّ، وَفِي مُضِيِّهَا نَقْصٌ مِنَ الأَعْمَارِ وَدُنُوٍّ مِنَ الآجَالِ، وَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ"، وَالسَّعَفَةُ هِيَ الْخُوصَةُ. (وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ الْجَامِعِ).
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلاً *** وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ بِالأَمْسِ اقْتَرَفْتَ إِسَاءَةً *** فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
فَيَوْمُكَ إِنْ أَغْنَيْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ *** عَلَيْكَ وَمَاضِي الأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
وَلاَ تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ *** لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَيَّامٌ قَلاَئِلُ تَبَقَّتْ لِتَوْدِيعِ الضَّيْفِ النَّازِلِ، مَرَّ سَرِيعًا، وَبَقِيَ مِنْ أَيَّامِهِ الْقَلِيلُ وَالَّتِي كَانَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِيهَا مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وَكَانَ يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ تَفَرُّغًا تَامًّا؛ لِمَعْرِفَتِهِ بِفَضْلِ هَذِهِ الْعَشْرِ، فَيَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، وَيَجِدُّ فِي الْعِبَادَةِ، وَيُحْيِي اللَّيْلَ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ، وَيَعْتَكِفُ فِيهَا لِيُوَفَّقَ لإِدْرَاكِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ حَيْثُ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ ثَلاَثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَإِنْ كَانَ الاِعْتِكَافُ قَدْ لاَ يَتَحَقَّقُ؛ لِوُجُودِ هَذِهِ الْجَائِحَةِ وَالَّتِي مَنْعَتْنَا الْعَمَلَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الْمُبَارَكَةِ، وَفَضْلُ اللهِ وَاسِعٌ وَكَرَمُهُ مِدْرَارٌ؛ فَمَنِ اعْتَادَ عَلَى الاِعْتِكَافِ أَوْ نَوَاهُ فَقَدْ كُتِبَ لَهُ؛ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا زَالَ فِي الْوَقْتِ فُسْحَةٌ، وَلِكَسْبِ الْخَيْرِ فُرْصَةٌ؛ فَأَبْوَابُ الْجَنَّةِ مَا زَالَتْ مُفَتَّحَةً، وَأَبْوَابُ النَّارِ مُغْلَقَةً، وَالشَّيَاطِينُ مُصَفَّدَةً، وَمَا زَالَ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلصَّائِمِينَ، وَلله عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ قَدْ تَكُونُ فِيمَا تَبَقَّى مِنَ اللَّيَالِي، فَالْفُرْصَةُ مَا زَالَتْ سَانِحَةً، وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ.
وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ رَبَّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"(رواه البخاري ومسلم مِنْ حَدِيِثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَحْسِنُوا وَدَاعَ شَهْرِكُمْ، وَاخْتِمُوا بِالْحُسْنَى أَعْمَالَكُمْ؛ فَإِنَّ الأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ، وَاغْتَنِمُوا مَا بَقِيَ وَلَوْ كَانَ يَوْمًا وَاحِدًا، فَأَوْدِعُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَكُونُ خَيْرَ شَاهِدٍ لَكُمْ يَوْمَ تَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ -سُبْحَانَهُ-؛ (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88–89].
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ مَسَالِكِ الإِحْسَانِ فِي خِتَامِ شَهْرِكُمْ: إِخْرَاجَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَهِيَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَعَطْفٌ وَأُلْفَةٌ، فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طُهْرَةً لِلصَّائِمِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَهِيَ صَاعٌ مِنْ طَعَامِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَوَقْتُ إِخْرَاجِهَا الْفَاضِلُ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَأَخْرِجُوهَا طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنَ التَّكْبِيرِ لَيْلَةَ الْعِيدِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ، تَعْظِيمًا للهِ، وَشُكْرًا لَهُ عَلَى التَّمَامِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].
وَاحْرِصُوا عَلَى شُهُودِ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَاحْضُرُوا الْخُطْبَةَ وَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا وَأَمِّنُوا عَلَى الدُّعَاءِ؛ فَفِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ، وَاشْكُرُوا رَبَّكُمْ عَلَى تَمَامِ فَرْضِكُمْ، وَلْيَكُنْ عِيدُكُمْ مَقْرُونًا بِتَفْرِيجِ كُرْبَةٍ وَمُلاَطَفَةِ يَتِيمٍ، وَابْتِهَاجٍ وَفَرَحٍ، وَعَهْدٍ بِالْبَقَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالاِسْتِقَامَةِ، مَعَ حِرْصٍ عَلَى تَطْبِيقِ جَمِيعِ الاِحْتِرَازَاتِ الَّتِي أَوْصَتْ بِهَا وَزَارَةُ الصِّحَّةِ لِمَنْعِ انْتِقَالِ الْمَرَضِ وَانْتِشَارِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي