نعمة سابغة ورحمة واسعة أن تخرج من رمضان مغفوراً لك، فحَافِظ على تلك النعمة ولا تبدّلها نقمة بالعودة إلى العصيان بعد وداع رمضان، وإن من ثمار الحسنةِ الحسنةَ بعدها، والاستمرار في العبادة عنوان القبول؛ فأظهر حبّك للطاعة بالمداومة عليها وإن قَلَّت، وكن دائماً للقاء الله مستعدّاً..
الحمد لله يبدئ ويعيد ويفعل ما يريد وهو الولي الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادةً أرجو بها النجاة يوم الوعد والوعيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والهدى والأمر الرشيد وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون حيثما كنتم، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وخالقوا الناس بخلق حسن.
بالأمس طُويت صفحة من صفحات الخيرات، وأفَلت شمس من شموس الفضائل والبركات يوم أن ودعنا شهراً مباركاً وموسماً عظيماً كان ميدانا للمتنافسين ومجالاً رحباً للمتسابقين.
مضى رمضان وقد كان موسماً شهد تصارع الهمم؛ فقوم همتهم في الثرى، وآخرون سمت فوق الثريا. فنسأل الله أن يقبل عمل العاملين ويغفر ذنوب المذنبين ويتوب على التائبين.
مضى رمضان بعد أن علّمنا أن العبادة بستان مفتوح للطالبين، وليست حكرًا على المتدينين، وعلمنا أن المظاهر ليست مقياسًا للتفاضل، فكم رأينا ممن لا تُحمد مظاهره وهو في غرة المتنافسين، وفي طليعة المتسابقين؛ لأنهم وإن علتهم مسحة من غبار الشهوات لكن من تحت الغبار قلوب نخفق بحب الجبار والشوق للجنة والخوف من النار.
مضى رمضان بعد أن علّمنا أن التغيير للأحسن ممكن، وأن العبادة جنّة مَن دخلها وذاق روحها وطيبها واستنشق عبيرها فلن يستطيع مفارقتها.
مضى رمضان بعد أن كشف لنا صور الإيجابية في مجتمعنا، فرأينا صور التنافس في الخيرات، صلاةً وصياماً وتلاوةً وقياماً، وذكراً وإحساناً، وبذلاً للخير ونفعاً للغير، ورأينا من معالم الخير ما يصد الشبهات، ويحطم كل معول للشهوات.
مضى رمضان ثم جاء العيد يوم الجوائز، وانصرف قوم من المصلى كيوم ولدتهم أمهاتهم؛ لأنهم في رمضان قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، بآيات ربهم يؤمنون، وبربّهم لا يشركون ومن خشيته مشفقون، يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده، وأولئك هم المفلحون.
جاءت أيام العيد وإن للعيد عندنا نحن المسلمين فرحة؛ فرحة بفضل الله ورحمته وكريم إنعامه ووافر عطائه؛ فرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، عيد يجمع المسلم بإخوانه المسلمين فيحس بعمق انتمائه لهذه الأمة ولهذا الدين فيفرح بفضل الله الذي هداه يوم ضل غيره (قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58].
ولأننا أمة التوازن والوسطية والاعتدال في كل ميادين الحياة فكذلك نحن أمة تلتزم الوسطية في فرحها وترفيهها وترويحها. والمنهج الوسط وهو المنهج الأسلم والأحكم فهو الذي سار عليه أسلافنا فجعلوا الترويح وسيلة لا غاية وانضباطاً لا انفلاتاً، وعبادة لا عادة.
يا عباد الله: ولئن مضى الشهر وانقضى فإن المسلم عمله لا ينطوي بانطواء شهر ولا يتوقف برحيل مرحلة.. إن المسلم يتعامل مع الحي الذي لا يموت من التكليف إلى الرحيل وحاديه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:99]، متذكرًا هدي الأنبياء (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[مريم:31].
يا عباد الله: لقد خضتم في رمضان معركة مع الشهوات خرجتم فيها منتصرين، وذقتم حلاوة النصر وتعودتم سبل الأجر، فلماذا يرجع بعضنا إلى مربع الخطيئة والتقصير بعد أن تطهَّر وذاق حلاوة الإيمان ولذة العبادة.
تعلمنا في رمضان أن صلاة الفجر ليست شبحاً؛ فلماذا النكوص بعد رمضان وهجر قرآن الفجر، وقد علمتم أنه كان مشهوداً.
في رمضان أدركنا أن الصيام والقيام وتلاوة القرآن وضبط السلوك والانفعالات والصدقات والبكاء من خشية الله عبادات يمكن اكتسابها والتحلي بها في كل حين، ولئن كانت في رمضان تظهر بصورة كبيرة فإنها في غيره يمكن التحلي بها ولو بصورة يسيرة.
إن من تعود الصيام شهراً بلا انقطاع لن يعجزه أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، بل ولو يوماً .. وابدأوا بالست من شوال، ولا يغرنكم الكسالى والمخذّلون الذين ينأون عن الصيام وينهون عنه مثيرين شبهات مردودة، فإن من أطاعهم في كل ما يُوردون ضعفت جبهة تدينه، وضعف إلى الله سيره وورد القيامة بزاد يسير.
وإن مَن تعود قراءة أجزاء من القرآن في رمضان لن يعجز أن يواصل المسير ولو بالقليل حتى لا يكون ممن اتخذ القرآن مهجوراً.
وإن مَن قدر على قيام ركعات كثيرة طويلة في رمضان فلن يكون من المستحيل أن يقوم في غيره ولو أن يحافظ على وتره.
يا عباد الله: فاثبتوا على طاعة ربكم في زمن الفتن والمتغيرات، وأثبتوا بثباتكم أنكم أقوى من عواصف المرجفين، وأنكم بالله أقوى من كل فتنة وإغواء (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت:69]، وما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[النحل:92].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
أما بعد: ففي مثل هذه الأيام تبرز صورة من صور الخلل الاجتماعي، وتتطلب التوازن والاعتدال، إنه جانب التقصير في العلاقات الاجتماعية والأسرية.
إن الانشغال عن الأهل تفريط في حق الرجل والأسرة وظلم لبيته؛ إذ كيف يسوغ للإنسان أن يترك والديه وزوجته وأهل بيته، وينطلق هو في عمله وزياراته وسهراته وسفراته، ويترك أبناءه وزوجته وأهله نهباً للوساوس والخطرات والوحشة والأزمات أو يتركهم للانغماس في المجتمع الذي يسير في طريق آخر.
وإن المنهج الوسط يتطلب إعطاء كل ذي حق حقه، والموازنة بين الواجبات والحقوق، فلأهلك عليك حق، ولصحبك عليك حق، وترتيب الأولويات مطلب؛ فحق الوالدين قبل غيرهما، والزوجة والأولاد حاجتهم أولى من حاجة غيرهم، فأعط كل ذي حق حقه.
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو قدوتنا، وقد كان يجالس أصحابه ويمازحهم ويسافر معهم ويزورهم ويجيب دعوتهم، وفي الوقت ذاته كان في حاجة أهله يؤانسهم ويدخل السرور عليهم ويتيح لهم الترويح المنضبط. وإن لكم في رسول الله أسوة حسنة.
فما أجمل الوسطية الحقة والاعتدال في كل الأمور.
وختاماً أخي المسلم: التوازن مطلوب في العبادات، فما بال أقوام كانوا في رمضان مجتهدين في نوافل العبادات، فلما انتهى رمضان ضيّعوا الفرائض وأهملوا الواجبات؟!
إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وما تقرّب عبد إلى الله بأحب مما افترض عليه، والأيام كلها لله، ونحتاج لإعمارها بما عُمِّر به شهر الصيام وتعظيم الله فيها كما عظمناه في رمضان.
نعمة سابغة ورحمة واسعة أن تخرج من رمضان مغفوراً لك، فحَافِظ على تلك النعمة ولا تبدّلها نقمة بالعودة إلى العصيان بعد وداع رمضان، وإن من ثمار الحسنةِ الحسنةَ بعدها، والاستمرار في العبادة عنوان القبول؛ فأظهر حبّك للطاعة بالمداومة عليها وإن قَلَّت، وكن دائماً للقاء الله مستعدّاً.
ويأيها المسلم: وأينما كنت وحيثما نزلت فاتق الله واجعله عليك رقيبا، فالزم حدود الله واحفظ الله يحفظك، وتذكر أن الله يراك؛ فلا تجعله أهون الناظرين إليك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي