إن على المرءِ أن يستمرَّ بالأعمال الصالحات بعد رمضان مُقبلاً مـُجتهداً. انتهى عنا رمضان وكم ترقرقت الدموع في المحاجر! وترددت الأصوات في الحناجر؟ كم بكى الباكون؟ وخشع الخاشعون؟ وتعبد المصلون؟ فلا ينبغي أن...
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الولي الحميد، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: قد انتهى عنا شهر رمضان بما كان فيه من فضائل الصيام والقيام؛ فطوبى لمن فاز بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدمَ من ذنبه"(رواه البخاري ومسلم)، وطوبى لمن أصاب قولَه عليه الصلاة والسلام: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(رواه البخاري ومسلم).
أيها الإخوة: إن من علاماتِ قَبولِ العمل: التوفيقُ إلى العمل الصالح من بعده الذي يكون حاله بعد رمضان في صلاته وصيامه وهجرانه للمنكرات وإقباله على الطاعات خيراً من حاله قبل رمضان، فهذا من علامات قَبولِ طاعته في رمضان -بإذن الله- وقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع ابنه عبد الله ينظران إلى الحُجاج، فقال عبد الله لأبيه: يا أبتِ ما أكثرَ الحاجّ! فقال عمر -رضي الله عنه-: "يا بُني الركبُ كثيرٌ لكن الحاجَّ قليل".
إن للجَنَّةِ باباً يُقال له: "الريان" يدخل منه الصائمون، ومن صام يوماً في سبيل الله باعدَ الله بينه وبين النار مسيرة سبعين خريفاً.
فليت شعري هل هو الصيام الذي يمتنع فيه المرء عن الطعام والشراب ويترك المنكرات في رمضان ثم إذا انتهى رمضان عاد لتقصيره وتفريطه؟! أم هو الذي يزيد العبدَ بعد رمضان إقبالاً على ربه وحُباً لقُربه.
لما بَنى إبراهيمُ -عليه السلام- البيتَ الحرامَ رفعَ بصرَه إلى السماء، وقال: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127] قال وهب بن الورد: "عجباً لخليلِ الرحمن يبني البيت الحرام بأمرٍ من العلَّام، ومع ذلك يخافُ ألّا يَتقبَّلَ الله منه".
إن على المرءِ أن يستمرَّ بالأعمال الصالحات بعد رمضان مُقبلاً مـُجتهداً؛ قيل للإمام أحمد -رحمه الله-: "ما تقول في أقوامٍ يتعبَّدون في رمضان فإذا انتهى عنهم رمضان عادوا لتقصيرهم؟ فقال: أعوذُ بالله أولئك عبّادُ رمضان وليسوا عبادَ ربِّ رمضان".
ينبغي أن نُعَوِّدَ أنفسنا على الطاعات سواء كنا مع جماعة يشجعوننا على تلاوة القرآن وقيام الليل أو كنا وحدَنا، بل على المؤمن أن يكون سبَّاقاً للخير قدوةً لغيره، والله -تعالى- لما ذكر دعاءَ المؤمنين، قال عز وجل: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74] يعني اجعلْنا أئمةَ هدىً وخيرٍ يُقتدى بنا.
كما قال تعالى: (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)[البقرة: 148]، وقال: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133].
أيها الأحبة الكرام: انتهى عنا رمضان، وكم ترقرقت الدموع في المحاجر؟ وترددت الأصوات في الحناجر؟ كم بكى الباكون؟ وخشع الخاشعون؟ وتعبد المصلون؟ فلا ينبغي أن يكون آخرُ عهدِنا بصلاةِ الليل آخرَ ليلةٍ من رمضان؛ روى الإمام أحمد أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال في الحديث الصحيح: "إنَّ الله زادَكُم صلاةً فصلُّوها فيما بينَ صلاةِ العشاء إلى صلاة الفجر، الوتر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه من دَأْبِ الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الآثام، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للدَّاء عن الجسد"(رواه الترمذي).
فاستمِرُّوا على الأعمال الصالحات بعد رمضان، فقد حذّر الله -تعالى- من قطعِ الأعمال أو إفسادِها؛ قرأ السُّدي الـمُفسِّر قولَ الله -جل وعلا-: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)[النحل: 92]، فقال: هي امرأةٌ خرقاء سفيهةٌ في مكة كانت تغزِلُ الثوبَ فإذا اكْتملَ غزلُها دفعته إلى جواريها فسَلَلْنَها خيطاً خيطاً، ثم دُفعت الخيوطُ إليها فتبدأ تغزلها مرةً أخرى، فهذه امـرأةٌ سفيهةٌ، وما الفـائدةُ من الغزلِ إذا كان سيُنقَض؟!
كذلك من تاب في رمضان عن النظر الحرام، أو سماع الحرام، أو فعل ما اعتاده من الآثام؛ تعظيماً لشأن رمضان، وطلباً للرحمة والغفران ينبغي أن يواصل ذلك بعد رمضان، فإنَّ رمضان مدرسةٌ لنعوِّد أنفسنا على حفظ ألْسِنَتِنا، وغَضِّ أبصارِنا، وتعَبُّدِنا لله -تعالى- بأنواعِ القُرُبات.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخِلَّانه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ من بركةِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ولقد شرع الله -تعالى- لنا بعد شهر رمضان عباداتٍ؛ فمن ذلكَ ما رواه مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "من صام رمضان وأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ من شوال كان كصيامِ الدهر".
وقد ذكر أهل العلم أن الحسنةَ بعشرِ أمثالها، وبالتالي يعدلُ صومُ شهر رمضان عشرةَ أشهرٍ، وصيامُ ستةِ أيامٍ من شوال يعدلُ ستينَ يوماً فيكون من صام رمضان وأتبعهُ ستاً من شوال كأنه صام السنة كلّها.
ولكن ينبغي على المرء أن يقضي ما عليه من رمضان ثم يصوم الست من شوال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال"، فاشترط إتمامَ صيام أيامِ رمضان ثم إتباعَها بستّ من شوال.
أيها الإخوة: لقد شاهدنا في رمضان رجالاً يشهدون صلاة الجماعة لم نكن نراهم قبل رمضان صلوا معنا التراويح ودعوا واستغفروا وقد صُفِّدَتْ عنهم الشياطين؛ فينبغي أن نحافظ على هؤلاء بعد رمضان نتعاهد صلاتهم معنا، وندعوهم إلى المساجد إن غابوا عنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عَجِبَ الله من قومٍ يدخلون الجنة في السلاسل"(رواه البخاري)، فلعل هذا الذي يقاد إلى الخير قياداً ويـُجَرُّ إليه جرَّاً لعله من هؤلاء.
كذلك -أيها الأحبة الكرام- من كان له في رمضان عملٌ دعوي أو إغاثي كمواعظَ، أو دروسٍ، أو عنايةٍ بالفقراء أو الأيتام، أو غير ذلك؛ ينبغي أن يواصل عليها حتى بعد رمضان؛ فإن رَبَّ رمضان هو ربُّ الشهور كلها، وأحب العمل إلى الله أَدْوَمُهُ وإنْ قَلّ.
أسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن تُقُبِّل صيامُهم، وقيامُهم.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام؛ فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي