اغْتِنَامُ الأَوْقَاتِ بِالاسْتِفَادَةِ مِنْ التَقْنِيَات

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. أهمية الوقت والحث على استغلاله والحذر من تضيعه .
  2. حرص السلف على اغتنام أوقاتهم واستثمارها .
  3. نعمة التقنية الحديثة والاستفادة منها .

اقتباس

اعلموا أن من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله أو خير أسسه، أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه وظلم نفسه، ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. ولهذا...

الخطبة الأولى:

الحَمدُ للهِ القائلِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان: 62] نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً. أَمَا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

أيها الإخوة: مما يحسنُ التذكيرُ بهِ في مثلِ هذه الأيام: الاهتمام بالوقت، الزمن، الحياة، وهي أسماءٌ لمسمى واحد، ذلكم الكنزُ الثمينُ، العظيمُ في قيمتِه، الرخيصُ على كثيرٍ منا، وهو مصدرُ سعادةِ الفردِ ومن ورائِه الأمة، وبقدرِ اهتمامِها به يُقاسُ تطورُها، وبقدرِ ما تكون ثقافةُ حفظ الوقت وإدارته بالأمة سائدة بقدر ما تتطور وتزدهر في هذه الحياة، وتتميز أمتنا أمة الإسلام بأن سعادتها تمتدُ إلى الآخرة حينما يبعث الله الخلق ليجازيِهم؛ فمن أحسنَ إدارة الوقت، وأحسن الاستفادةَ منه فيما يُرضي الله، وابتعد عما يُغضبه؛ فاز وربح، ومن لا..؛ خاب وخسر -نعوذ بالله من الخسران-.

أحبتي: لذلك أقسمَ الباري -سبحانه- بأجزاء منه إشعاراً للأمة بأهميته وقيمته وفضله، لافتاً أنظارَها لآثاره ومنافعه، فأقسم بالفجر والليل والنهار والضحى والعصر الذي هو الدهر؛ كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: "أي الليل والنهار"، وهما محل أفعال العباد وأعمالهم.

وحذرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صحيحَ البدنِ من الفراغِ، وعدَه سبباً من أسبابِ الغبن، فَقَالَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"(رواه البخاري) قال السندي -رحمهُ اللهُ-: "والمقصودُ أن غالبَ الناس لا ينتفعون بالصحةِ والفراغ، بل يصرفونهما في غير محلِهما، فتصير الصحةُ والفراغُ في حقِهم وبالاً".

وكان سلفُ الأمةِ -رضوان الله عليهم- يحرصون أشد الحرص على اغتنام أوقاتهم، واستثمارها، وكانوا يسابقون الساعات ويبادرون اللحظات ضنًّا منهم بالوقت، وحرصاً على ألا يذهب منهم سدى، وكان الوقتُ عندهم أغلى من الدينارِ والدرهمِ! ولو تأملَ المرءُ ملياً وتفكَّر جلياً لعلمَ علمَ اليقين أن الوقتَ أغلى من كنوز الأرض كلِها؛ لأن المال يذهب ويجيء، أما الأيامُ والليالي فإنها إذا ذهبت لا يمكن أن تعود أبداً.

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "ما نَدِمتُ على شيءٍ ندَمي على يومٍ غَرَبَت شمسُه، نَقَصَ فيهِ أَجَلي، ولم يزدَدْ فيه عملي"، وقال أيضا: "إني لأبغض الرجلَ أراه فارغاً لا في أمر دنياه ولا في أمرِ آخرته".

ويقولُ الحسنُ -رحمهُ اللهُ-: "ما من يومٍ ينشقُ فجرُه إلا وينادي يا ابنَ آدم: أنا خلقٌ جديدٌ؛ وعلى عملِك شهيدٌ فتزودْ مني فإني إذا مضيتُ لا أعودُ إلى يومِ القيامةِ. ويقولُ: يا ابنَ آدم إنما أنتَ أيامٌ كُلما ذهبَ يومٌ ذهب بعضُك".

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمهُ اللهُ-: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما".

وقال سعيدُ بن جُبير: "كلّ يوم يعيشه المؤمن غنيمة".

وقال بكر المزني: "ما من يومٍ أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا يومَ لك بعدي! ولا ليلةٍ إلا تنادي: ابنَ آدم، اغتنمني لعلَّه لا ليلةَ لك بعدي!".

وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: "كُنَّا مَعَ الثَّوْرِيِّ جُلُوْساً بِمَكَّةَ فَوَثَبَ، وَقَالَ: النَّهَارُ يَعْمَلُ عَمَلَه"، وقال أحمد بن مسروق: "أنت في هدم عمرك منذ خرجت من بطن أمك".

وكتب بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: "يا أخي يُخيَّلُ لك أنَّك مقيم؟! بل أنتَ دَاَئِبُ السَّيرِ، تُساقُ مع ذلِكَ سُوقاً حثيثاً، الموتُ موجَّهٌ إليكَ، والدُنيا تُطوى من ورائِكَ"، وقال بعضُ الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإنْ لم يسر..".

وقال ابنُ القيِّمِ -رحمهُ اللهُ-: "إِضَاعَةُ الْوَقْتِ أَشَدُّ مِنَ الْمَوتِ؛ لِأَنَّ إِضَاعَةَ الوقْتِ تَقطَعُ عنِ اللهِ والدَّارِ الآخِرَة، والموتُ يقطعُكَ عنِ الدُّنيا وأهْلِها"، ويقول: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا أَعَانَهُ بِالْوَقْتِ، وَجَعَلَ وَقْتَهَ مُسَاعِدًا لَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّتْ نَفْسُهُ بِالْقُعُودِ أَقَامَهُ الْوَقْتُ وَسَاعَدَهُ. وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا جَعَلَ وَقْتَهُ عَلَيْهِ، وَنَاكَدَهُ وَقْتَهُ؛ فَكُلَّمَا أَرَادَ التَّأَهُّبَ لِلْمَسِيرِ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْوَقْتُ".

ويقولُ آخرُ:

وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عُمرِه *** على سَفرٍ يفنِيه باليومِ والشهرِ

يبيتُ ويُضـحي كـلَ يومٍ وليلةٍ *** بعيداً عن الدنيا قريبـاً من القبرِ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)[فصلت: 46].

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خلق فسوى، أشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي النهى، ومن على طريقهم اقتفى، وسلم تسليماً ليس له منتهى.

أما بعد: أيها الإخوة: اتقو الله حق التقوى، واعلموا أن من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله أو خير أسسه، أو علم اقتبسه؛ فقد عق يومه وظلم نفسه، ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.

ولهذا حرص الموفقون على الاستفادة من كل دقيقه وثانية بالعمر للاستزادة من العمل الصالح، وعدوا ذلك مغنما، وعَلِمُوا أن ضياعَها بدون فائدة مغرماً، وتيقنوا أن مراعاة الأوقات من علامات التيقظ.

أيها الإخوة: ماذا عن واقع حياتنا اليوم؟ حديث أكثره بدون فائدة وأسئلة بلا نهاية: متى كُسر هذا؟ ومتى فُتح هذا؟ ومتى أخذ هذا؟ ثم تفصيل طويل لا يُفيد مستمع ولا ينفع متحدث.

أحبتي: في زمن مضى يسافرُ الرجلُ من شمالِ الأندلس إلى العراق يقطع الفيافي والقفار من أجل سماع حديث ونعم ما صنع، واليوم هيأ اللهُ -تعالى- لنا العلوم في غُرَفِنا المكيفة المنيرة، بل وفي فُرشنا الوثيرة؛ نقرأ ونسمع ونطلع ونحضر الدروس والمحاضرات، وبرامج التدريب بلمسة زر بأطراف الأنامل.

كم هي برامج القرآن وتطبيقاته؟ منها ما هو للقراءةِ والسماعِ والتسميعِ والتصحيحِ، والتَعَلْمِ والتعليمِ والتفسير، فهل دار بخلد وأحد منا أنه يجد من يُسمع له ما حفظ، أو من يُصحح له تلاوته وهو في مضجعه في أي ساعة من ليل أو نهار؟!

وهل خطر ببال أحدنا أنه يستطيع أن يسمع كتب السنة تقرأ عليه في أي وقت وأي وضع بصوت جميلٍ من طالب علم متقن؟ وهل توقع كبارنا أنه سيحصل على أي حديث ذُكر له مخرجاً مشكولاً مشروحاً خلال ثوانٍ معدودة؟ وهل.. وهل..؟ أبوابٌ للتَعَلُمِ والتعليم مُشْرَعَةٌ على مدار الثانية وفي كل اللغات.

لكن مع الأسف كثيرٌ منا عن هذا غافل أو مشغول أو لم يفكر فيه أصلاً.

وبعد -أيها الأخ المبارك-: لنقف أنا وأنت مع أنفسنا وقفة محاسبةٍ جادة: كم نمضي من الوقت في الاطلاع على وسائل التواصل يومياً؟ لو نظرنا إلى المتوسط لهالنا الوقت المهدر! لن أقول: لندعها، ولكني أقول: لنجعل لبرامجِ الخيرِ وتطبيقاتِه من وقتنا نصيباً مفروضاً، وعلينا أن نلزم أنفسنا بذلك ونحاسبها.

سلك الله بنا وذريتنا سبل السلام، ووفقنا للطاعة، وحُسن الختام.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي