تفسير قوله -تعالى- (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)

إسماعيل القاسم
عناصر الخطبة
  1. قواعد جامعة في أسماء الله وصفاته .
  2. الإيمان بأسماء الله وصفاته .
  3. تأملات في معاني اسمي الله السميع البصير. .

اقتباس

الله -جل وعلا- يرى كل مرئي، سواءٌ كان ذلك الشيء صغيرًا أو كبيرًا، خفيًا أم غير خفي، فلا تغيب عنه غائبة -جل وعلا- في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما، ولا تخفى عليه خافية، يبصر ويرى كل شيء -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى- لموسى وأخيه هارون: (لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)...

الخطبة الأولى:

أسماء الله -جل وعلا- حسنى، قال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الأعرَاف: 180]، ومعنى كون أسماء الله -جل وعلا- حسنى: أي بالغةً نهايةَ الحُسن، والجمال، والجلال، والكمال.

وصفات الله -جل وعلا- تنقسم إلى صفات ذاتية وصفات فعلية:

فالصفات الذاتية: هي التي لا تنفك عن الله -جل وعلا-، كالسمع والبصر.

والصفات الفعلية: هي المتعلقة بمشيئة الله، مثل صفة الغضب، فإنه يغضب ويرضى، يغضب إذا شاء، ويرضى إذا شاء، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)[طه: 81]، وحديث الشفاعة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله"(متفق عليه).

ومن أسماء الله: السميع والبصير، وهما يأتيان مقرونان في القرآن الكريم كثيرًا، قال الله -تبارك وتعالى-: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[غَافر: 56]، وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجَادلة: 1]، وقال: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46].

فـ(السميع): مبالغة من (سامع)، يعني الذي لا يفوت سمعه شيء، و(البَصِيرُ ): مبالغة من (المُبصر)، وهو: الذي لا يفوت بصره شيء.

يعلم ويرى ويسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، بل ويرى من هذه النملة العروق، وما يجري فيها من طعام، وورود اسمي السميع والبصير بصفة الماضي في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النِّسَاء: 58]، لثبوت الصفة أزلاً وثبوتها فيما بعد ذلك.

وهاتان الصفتان، السمع والبصر، من صفات الكمال، فآلهة المشركين التي يعبدونها ليست متصفة بهذه الصفة، كما في قول إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[مَريَم: 42]، وقال لقومه: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ)[الشُّعَرَاء: 72]، قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا أشرفنا على واد هلَّلنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم -أي: ارفقوا بأنفسكم-؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه، وتعالى جَدّه"(رواه البخاري).

وفي قصة المجادلة قالت عائشة -رضي الله عنها-: "تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تقول: يا رسول الله! أَكَلَ شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)[المجَادلة: 1]"(رواه ابن ماجه).

والله -سبحانه وتعالى-: يسمع الصوت المسموع، والمتناجَى به، قال -سبحانه-: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[المجَادلة: 7]، سواء كان المتكلمون قلة أو كثرة، فكل داعٍ في السماء أو في الأرض أو ما بينهما، فإن كل أقوالهم وإن كانوا في وقت واحد فإن الله يسمعها، دون أن يشغله آخرون، وهذا خلاف صفة المخلوق الضعيف، الذي لا يمكن أن يستمع إلى قول إلا واشتغل باستماعه إياهم عن أقوال الآخرين.

وفقنا الله وإياكم للعمل الموصل لمرضاته.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الله -جل وعلا- يرى كل مرئي، سواءٌ كان ذلك الشيء صغيرًا أو كبيرًا، خفيًا أم غير خفي، فلا تغيب عنه غائبة -جل وعلا- في الأرض ولا في السماء ولا ما بينهما، ولا تخفى عليه خافية، يبصر ويرى كل شيء -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى- لموسى وأخيه هارون: (لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46].

ففي الآية الكريمة: إثبات صفة السمع والبصر له جل شأنه، إثباتًا يليق بجلاله وعظمته، وهما من صفات الكمال.

وقال لنبيه -عليه السلام- (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الشُّعَرَاء: 218-220]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أي حين تقوم إلى الصلاة، وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت.

والله -عز وجل- مطلع على أحوال رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)[الطُّور: 48]، قال ابن كثير -رحمه الله- أي: "اصبر على أذاهم ولا تبالهم، فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس".

والله بصير بعمل كل عامل، بصير بعمل عباده المؤمنين، قال -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البَقَرَة: 110]، قال ابن جرير -رحمه الله-: "هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرًّا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها، فلا يخفى عليه شيء من الأحوال والأقوال والحركات والسكنات".

وهو -سبحانه- بصير بأعمال المشركين، قال -تعالى-: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[البَقَرَة: 96]، أي: أن الله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر.

فالله يبصر كلَّ شيء وإن دق وصَغُر، فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع، كما يبصر ما فوق السموات السبع.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في نونيته:

وهو البصير يرى دبيب النملة ال*** سوداء تحت الصخر والصوان

ويرى مجاري القوت في أعضائها *** ويرى عروق بياضها بعيان

ويرى خيانات العيون بلحظها *** ويرى كذلك تقلب الأجفان

فعلى المسلم أن يثبت صفة البصر إثباتًا يليق بجلاله -سبحانه- قال -سبحانه-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشّورى: 11]، وفي السنن: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ على المنبر: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النِّسَاء: 58]، ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا ريب أن مقصودَه تحقيقُ الصفة، لا تمثيلُ الخالق بالمخلوق".

والإيمان بذلك له أثر إذا وقر في القلب، فإذا استشعر المسلم بأن الله سميع وأنه بصير أحدث له المراقبة، وأن الله يسمع كلامه وسيحاسبه على ما تكلم به، كما في قوله -تعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسرَاء: 36]، فيحمي المسلم سمعه من الحرام، ومن الاستهزاء بشرع الله، ويعمل بجواره في الطاعات والقربات.

ثم اعلموا أن قُرْب الله -عز وجل- لا ينافي علوه، فهو قريب، وهو مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشّورى: 11]، لا في ذاته ولا في صفاته (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشّورى: 11].

جعلنا الله ممن يستعمل جوارحه في مرضاته.

وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي