وحسبك بمكة أن فيها بيتَ الله الذي رضي لعباده على الحط لأوزارهم، وغفرانِ ذنوبهم أن يقصدوه مرة واحدة في أعمارهم، ولم يقبل من أحد صلاةً إلا باستقبال جهته بصلاته، إذا كان عالمًا بالجهة، قادرًا على التوجه إليها، فهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتًا، والآثار عن السلف في فضائل مكة كثيرة جدًّا...
فاضَل الله بين البقاع والأمكنة، وأعظم بُقعة فاضلة على وجه الأرض بيت الله الحرام، رفَع قواعدَه إبراهيمُ -عليه السلام-، قال -سبحانه-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البَقَرَة: 127].
وقد خصه الله -تعالى- بخصائصَ فريدة، وميزاتٍ عديدةٍ، منها ما قاله -سبحانه-: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)[آل عِمرَان: 96-97].
ففي هذه الآية الكريمة سبع خصال ليست لغيره من المساجد، فهو أول بيت وضع للناس، ومبارك، وهدى للعالمين، وفيه آيات بينات، ومقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا، والحج والعمرة إليه.
وميّز -تعالى- بيته الحرام بأن جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتَحِنُّ إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)[البَقَرَة: 125]، وذلك استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يَحِنّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار".
وهي مولد ونشأة خير عباد الله، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وهي مهبط الوحي، ومنبعُ الرسالة، وقبلةُ المسلمين، ومهوى أفئدتِهم.
وهي أم القرى قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)[الشّورى: 7]، وتسميتها بأم القرى، لأنها أشرف من سائر البلاد.
ومكةُ حَرَمٌ حرَمَّها الله -عز وجل-، كما في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[النَّمل: 91]، وقولِه -جلَّ ذكره-: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)[القَصَص: 57].
وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومَ فتحِ مكة: "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يَحِلّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضد شوكه، ولا يُنفَّر صيدُه، ولا يُلْتقط إلا من عَرّفها، ولا يُخْتلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنه لقينِهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر"(متفق عليه). القَين: الحَدَّاد لأنه يحتاج إليه في عمل النار، وبيوتهم تحتاج إليه في التسقيف.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "فإذا عُلم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم -عليه السلام- حرمها؛ لأن إبراهيم بلّغ عن الله حُكْمَه فيها، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدًا حرامًا عند الله قبل بناء إبراهيم -عليه السلام- لها".
ومن المنن التي امتن الله بها على أهل مكة، أنه أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فَقَبْل الإسلام كان أمرًا متعارفًا لأهل الجزيرة، وعندما جاء الإسلام أكد ذلك قال -سبحانه-: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عِمرَان: 97].
ومكة المكرمةُ محفوظةٌ بحفظ الله لها من أي عدو يريد بها سوءًا كما حصل لأصحاب الفيل، وتوعد الله من أراد بها شرًا بقوله -سبحانه-: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)[الحَجّ: 25]، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لو أن رجلاً أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَنِ أَبْيَن، لأذاقه الله من العذاب الأليم".
ودعا إبراهيم -عليه السلام- لأهلها بالأمن والرزق بقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البَقَرَة: 126]، فأجاب الله دعاءه، وأصبح يجبى إليها ثمرات كل شيء، والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب، وهذا مصداقٌ لقول المَلَك لهاجَر أمِّ إسماعيل -عليهما السلام- كما في صحيح البخاري: "لا تخافوا الضيعة -أي الهلاك-؛ فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله" الحديث.
وفي حديث أبي جهم "لا تخافي أن ينفد الماء"، وفي رواية علي بن الوازع، عن أيوب عند الفاكهي "لا تخافي على أهل هذا الوادي ظمأ، فإنها عين يشرب بها ضيفان الله"، زاد في حديث أبي جهم "فقالت: بشّرك الله بخير".
ومكة خير أرض الله إلى الله، كما في حديث عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري: قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته بالحَزْوَرَةِ -مكان في مكة مرتفع يسيرًا- يقول: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"(رواه النسائي).
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: "ما أطيبك من بلد!، وأحبَّك إليَّ!، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"(رواه الترمذي).
وهي بلد لا يطؤها الدجال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافِّين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيُخرج الله كلَّ كافر ومنافق"(متفق عليه).
ومكةُ دار إسلام وستبقى كذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الفتح: "لا هجرةَ، ولكن جهادٌ ونية"(متفق عليه)، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "في الحديث بشارة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن مكة تستمر دار إسلام".
وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- عن جماعة من المفسرين، أسماءَ كثيرةً لمكة تدل على ما فيها من معاني، فهي مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأم رحم، وأم القرى، وصلاح، والعرش، والقادس؛ لأنها تطهّر من الذنوب، والمقدسة، والناسة بالنون، وبالباء أيضًا، والحاطمة، والنسّاسة، والرأس، وكوثى، والبلدة، والبنية، والكعبة.
وقد أجابت أفئدةٌ من الناس نداءَ الخليل، منهم موسى، ويونس -عليهما السلام- كما في صحيح مسلم، ويقصدها الناس مشاةً وركبانًا من كل فج عميق؛ (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)[الحَجّ: 28]، ويقصدها الزوار والمعتمرون على مدار أيام السنة لما فيها من ثواب كبير.
وفقنا الله لطاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
مكة بلد الخيرات والبركات، وهذا ببركة دعا خليل الرحمن لها -عليه السلام-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها، وحَرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة"(رواه البخاري).
ومن بركاتها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"(متفق عليه).
وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه"(رواه ابن ماجه).
والحجر الأسود نزل من الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم"(رواه الترمذي).
ويُستحب للطائف -إن تيسر له- أن يمسح الركن اليماني، قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة"(رواه أبو داود).
وعند الكعبة مقام إبراهيم -عليه السلام-، لما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله، -عز وجل-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)[البَقَرَة: 125].
وبها ماء مبارك هو ماء زمزم، قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنها مباركة، إنها طعام طُعْم"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "طعام طُعم، وشفاء سُقْم"(رواه البزار).
ومن أكرمه الله بالمكث فيها وأراد مزيد تطوع فله الطواف بالبيت العتيق، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها".
ومواطن الدعاء فيها كثيرة، كالدعاء عند الملتزم، وعلى الصفا والمروة، وخير الدعاء يوم عرفة، وعند رمي الجمار، وغيرها.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلو لم يكن البلد الأمين خيرَ بلاده، وأحبَّها إليه، ومختارَه من البلاد، لما جعل عرصاتِها مناسك لعباده، فَرَض عليهم قصدَها وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال -تعالى-: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)[التِّين: 3]، و(لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)[البَلَد: 1].
وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرُها، وليس على وجه الأرض موضع يُشرع تقبيله، واستلامه، وتُحَطّ الخطايا والأوزار فيه، غيرَ الحجر الأسود، والركن اليماني".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يُقَبَّل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود".
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وحسبك بمكة أن فيها بيتَ الله الذي رضي لعباده على الحط لأوزارهم، وغفرانِ ذنوبهم أن يقصدوه مرة واحدة في أعمارهم، ولم يقبل من أحد صلاةً إلا باستقبال جهته بصلاته، إذا كان عالمًا بالجهة، قادرًا على التوجه إليها، فهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتًا، والآثار عن السلف في فضائل مكة كثيرة جدًا".
والآيات الكريمات، والأحاديث الشريفة يطول المقام في ذكرها، وقد بوّب الإمام البخاري بابًا في فضائلها، وكذا أصحاب السنن -رحمهم الله-.
وفقنا الله لأداء العمل الصالح المتقبل.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي