ففي يوم واحد يجتهد المسلم فيه بالصيام، واتباع الجنازة، وإطعام المساكين، وعيادة المريض، فإن من قام بهذه وغيرها فهي من أعمال تقوية الإيمان، بسبب اجتماع أمهات العبادات.. وما سَبَق الصِّدِّيقُ الأمةَ وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من جنس هذه الأعمال العظيمة، لذا قَرْنُ الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة كانت أوقاتهم مملوءة بالطاعات، وأداء نوافل العبادات، فضلاً عن الحرص على أداء الفرائض.
وصف الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبيَاء: 107]، وقال أيضًا -سبحانه-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عِمرَان: 159]، فهو -صلى الله عليه وسلم- يشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم ومعايشهم، ولذا هو قريب من الصحابة -رضي الله عنهم- في شؤونهم.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه- أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"(رواه مسلم).
في هذا الحديث النبوي يظهر تواضعُ النبي -صلى الله عليه وسلم- ومباسطتُه لأصحابه -رضي الله عنهم-، وهذا ظاهر جليّ في أحداثٍ كثيرة منها: ما رواه سمرةُ بنُ جندب -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه، فقال: "من رأى منكم الليلة رؤيا؟" قال: فإن رأى أحد قصَّها فيقول ما شاء الله"(رواه البخاري).
أو كقول جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية، وينشدون الشعر ويضحكون، ويتبسم -صلى الله عليه وسلم-"(رواه النسائي).
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم- عن بعضٍ من نوافل العبادات وليس الفرائض، وهذه الأعمال الخَيِّرةُ باجتماعها تكون سببًا بعد رحمة الله لدخول الجنة:
أولها: الصيام، وهو صيام التطوع، وقد اختص الله بثواب هذا العمل، كما في الحديث قال: "يقول الله -عز وجل-: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(متفق عليه).
وفي صوم التطوع وردت فضائل عامة، كقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله، إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا"(رواه مسلم).
أو بتخصيص أيامٍ من أيام الأسبوع بعينها -كالاثنين والخميس- قال فيهما: "تُعرَض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأُحِبّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم"(رواه الترمذي).
أو تحديد ثلاثة أيام من كل شهر، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"(رواه البخاري).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله"(متفق عليه).
وورد تخصيصُ هذه الأيامِ بأيام البيض، فقال لأبي ذر: "إذا صمت من الشهر ثلاثًا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة"(رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه).
ومن الصيام ما يكون سنويًا: كصيام يوم عرفة لغير الحاج، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضله: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده، والسنة التي قبله"(رواه مسلم).
أو عشرِ ذي الحجة، أو يومِ عاشوراء، فقد صامه وأمر بصيامه، وسئل عنه فقال: "يكفّر ذنوب السنةِ الماضية"(رواه مسلم)، وفيه "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع".
ومنها: الإكثار من الصيام في شعبان، فقد كان يفعله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قالت عائشة -رضي الله عنه-: "ولم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كلَّه، كان يصوم شعبان إلا قليلاً"(رواه مسلم).
الثاني من الأعمال: اتباع الجنائز، وقد جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- حقًّا من حقوق المسلم على المسلم، فقال: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"(رواه البخاري).
واتباع الجنائز إما أن يكون اتباعها بالصلاة عليها، أو بالصلاة عليها وحتى يفرغ من دفنها. والأخير أفضل لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من شهد الجنازة حتى يُصلِّي؛ فله قيراط، ومن شهد حتى تُدْفَن كان له قيراطان"، قيل وما القيراطان؟، قال: "مثل الجبلين العظيمين"(متفق عليه).
الثالث من الأعمال: إطعام المسكين، وهو من الأعمال التي أمر الله بها وحض عليها، ومدح الله -تعالى- فاعلها، فقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا)[الإنسَان: 8-9].
وقد جاء في الحديث القدسي أنه يقول للعبد يوم القيامة: "يا ابن آدم! استطعمتك فلم تُطْعمني، فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: أستطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"(رواه مسلم).
وورد في فضل إطعام الطعام قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة غُرفًا يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناسُ نيام"(رواه الإمام أحمد).
الرابع من الأعمال: عيادة المريض، وهي من حق المسلم على المسلم، وقد جاء في فضل العيادة أحاديث كثيرة، منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضًا لم يزل في خُرْفة الجنة حتى يَرْجع"(رواه مسلم)، والخُرْفة: ما يخترف منها، والمعنى: أنه يمشي في طريق مفضية إلى الجنة، كأنه يمشي في طريقِ وسط الجنة يجني من ثمارها ما شاء.
وهي الأعمال الصالحة التي فيها ثواب وأجر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله، ناداه منادٍ أن طِبْت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً"(رواه ابن ماجه والترمذي).
فعودوا المريض فإن الله يلوم على تركها، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يقول للعبد يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! فيقول: كيف أعودك يا رب وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده"(رواه مسلم).
ويستحب للعائد أن يدعوَ للمريض بالشفاء والعافية، وأن يُوصيَه بالصبر والاحتمال، وأن يقول له الكلماتِ الطيبةَ التي تطيّب نفسَه وتقوي رُوحه.
كما يستحب تخفيفُ العيادةِ وتقليلُها ما أمكن، حتى لا يَشُقَّ طولُ الجلوسِ عنده عليه، إلا إذا رغب المريض في ذلك، أو علم الزائر أن المريض يحب زيارتَه وطولَ الجلوسِ عنده.
ومن الأدعية المشروعة: "اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سَقَمًا"(متفق عليه).
وفقنا الله لطاعته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
في هذا الحديث مَنْقبة عظيمةٌ لأبي بكر -رضي الله عنه-، حيث إنه الذي اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع في يوم واحد دون غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقد ورد في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ الا دخل الجنة"، قال القاضي: "معناه دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال، وإلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله -تعالى-".
واجتماعها في يوم يدل على دوام السعادة لصاحبها، ومما يوجب حُسنَ الخاتمةِ ودخولَ الجنة -بعد رحمة الله -.
أبو بكر -رضي الله عنه- صاحب مبادرات الخير، سمع أن للجنة ثمانيةَ َأبواب، لم يَرْضَ أن يُدْعَى من باب أو بابين، وإنما أحب أن يُدْعَى من ثمانية أبواب، فقال: " ما عَلى أحَدٍ يُدعى مِن تِلكَ الأبوابِ مِن ضرورةٍ، فَهَل يُدعى أَحدٌ مِن تلكَ الأبوابِ كُلِّها؟ قالَ رَسولُ اللَّهِ: "نعَم، وأرجو أن تَكونَ مِنهُم"(متفق عليه).
ومثل اجتهاد خليفة رسول الله أبي بكر -رضي الله عنه- في العبادات يبعث في نفس المسلم العجبَ والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء بمثل أولئك الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي يوم واحد يجتهد المسلم فيه بالصيام، واتباع الجنازة، وإطعام المساكين، وعيادة المريض، فإن من قام بهذه وغيرها فهي من أعمال تقوية الإيمان، بسبب اجتماع أمهات العبادات.
وخصال الخير في يومِ أبي بكر لم يكن يفعل ذلك تحريًا لمثل هذا السؤال، وإنما كان ذلك يومًا معتادًا من أيامه، وما سَبَق الصِّدِّيقُ الأمةَ وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من جنس هذه الأعمال العظيمة، لذا قَرْنُ الصحابة ومن بعدهم من سلف هذه الأمة كانت أوقاتهم مملوءة بالطاعات، وأداء نوافل العبادات، فضلاً عن الحرص على أداء الفرائض.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- أحبَّ الرجال إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقال فيه: "إن من أَمَنّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنْ أُخوةُ الإسلام ومودتُه، لا يَبقيَنَّ في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر"(رواه البخاري).
ومن أعظم مناقبه التي لا يشاركه فيها غيره قول الله -تعالى-: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التّوبَة: 40].
رزقنا الله اقتفاء أثر رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي