مَن ضيَّع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مُؤْنتها عليه، وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومَن لم يبر والديه مع وُفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برًّا، ومَن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك،...
الدين الإسلامي أُسُسُه راسخة، وقواعده ثابتة، وأحكامه سهلة ميسرة، وأعماله متنوعة، فيؤدي المسلم شرائعَه، الفاضلَ قبل المفضول، والأهمَّ فالمهم، اغتنامًا للأجر، واستباقًا لأداء الخير.
وقد وردت أحوال، وأزمان، وأماكنُ فاضلة، تُضاعَف فيها الخيرات، وتعلو فيها الدرجات. وقد سأل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي العمل أحب إلى الله -تعالى-؟ قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(متفق عليه).
هذا الحديث فيه معانٍ عديدة، وفوائدُ كثيرة، فيظهر فيه حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على تعلم أمور دينهم، كما ثبت ذلك في الصحاح، فيأتي الرجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله أوصني، وتارة يأتي الرجل ويقول دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، وتارة يُسأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، وهكذا حالهم، وأُجمل ذلك في قول حذيفة -رضي الله عنه-: "كان الناس يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"(متفق عليه).
وخَصّ عبدُ الله بنُ مسعودٍ -رضي الله عنه- سؤالَه عن العمل المحبب إلى الله؛ لأن ثوابه كبير، وأجره عظيم، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أعمال: الصلاة على وقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله. فالصلاة عمود الدين، وبر الوالدين وفاء لبعض حقهما، والجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام.
فبدأ -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة على وقتها لأهميتها، فهي أول ركن بعد الشهادتين، وهي سبب ٌ لدخول الجنة، كما في الحديث: "من صلى البَردين دخل الجنة"، وفي الحديث: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة"(رواه النسائي).
وأداء الصلاة يكون في بيوت الله، قال -سبحانه-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البَقَرَة: 43]، "أتى رجل أعمى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يرخص له فيصلى في بيته، فرخص له، فلما ولّى دعاه فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة"، فقال: نعم، قال: "فأَجِبْ"(رواه مسلم).
ولأهميتها فإن شرائع الإسلام فرضت في الأرض، إلا الصلاة فقد فرضت في السماء ليلة الإسراء والمعراج، وتتأكد أهميتها أن الله لم يسقطها عن أي مسلم، مميز، يعقل، فالمريض يصلي على الهيئة التي يستطيعها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"(رواه البخاري).
والمقاتلون في سبيل الله يؤدون صلاتهم بحالةٍ شرعها الله لهم تسمى صلاة الخوف، دون تأخير عن وقتها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن أخَّر الصلاة عن وقتها فقد أتى بابًا من الكبائر".
والعمل الثاني: المحبب إلى الله -تعالى- بر الوالدين، فالله -سبحانه- قرن حقه بحق الوالدين في قوله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النِّسَاء: 36]، وقال -سبحانه-: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمَان: 14].
وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعه على الجهاد، وقال تركت أبويّ يبكيان، فقال: "ارجع فأضحكهما، كما أبكيتهما"(رواه أبو داود وابن حبان)، ولهما أيضًا من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما".
والله أوصى بالبر بهما، ولو كانا كافرين: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمَان: 15]، وسأل رجلٌ ابنَ عمر -رضي الله عنهما- وهو حامل أمه على ظهره يطوف بها فقال يا ابن عمر أتراني جازيت أمي؟ فقال: "ولا طلقة من طلقاتها، ولكن الله يجزي العمل القليل بالكثير".
وبكى الحارث العَكِّيُّ -رحمه الله- في جنازة أمه، وقال: "أُغلق عني باب من أبواب الجنة". وبرُّ الوالدين في حياتهما يكون بالكلمة الطيبة، والفعل الحميد، وبعد وفاتهما بالدعاء لهما، وإنفاذ وصيتهما، وإكرام صديقهما.
وضد برهما عقوقُهما، وقد وردت آياتٌ وأحاديثٌ تبين خطورة ذلك: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسرَاء: 23-24].
وجاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين"، قال ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس"، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب"(رواه البخاري)، وفي رواية أخرى قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
العمل الثالث: الذي أبانه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الجهاد في سبيل الله، فالجهاد جهادان: جهاد العدو، وجهاد النفس.
فأما جهاد العدو: فهو ما كان لإعلاء كلمة الإسلام، قال أبو موسى -رضي الله عنه-: "سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله"(متفق عليه)، وجهاد العدو له ضوابط وضعتها الشريعة حفاظًا على دم المسلم وغيره.
وقد جعل الله للشهداء منزلة كبيرة في الآخرة، جزاءً على ما قدموا أرواحهم نصرة للدين، ورفعة لكلمة التوحيد، قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاء: 69]، ويُبعث الشهيد على ما مات عليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يُكْلَم أحد في سبيل الله -عز وجل، والله أعلم بمن يُكْلمَ في سبيله-، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك"(متفق عليه).
ومن رحمة الله أن جعل أصناف الشهداء كثيرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ما تعدون الشهداء فيكم؟"، قالوا: يا رسول الله! من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذا لقليل"، قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: "مَن قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد"(رواه مسلم).
وفي حديث آخر: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله -عز وجل-"(متفق عليه)، وعند الإمام أحمد "والنفساء يقتلها ولدها".
وفي حديث آخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دِينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد"(أخرجه أبو داود والترمذي).
وفَضْل الله واسع، وأجره كبير، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"(رواه مسلم).
والجهاد الثاني: جهاد النفس، فهو جهاد لا دماء فيه، ولا أشلاء، قال ابن رجب -رحمه الله-: "جهاد النفس عن الهوى من أعظم الجهاد"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المجاهد من جاهد نفسه في الله"(رواه الترمذي)، وعندما سئل ابن عمر -رضي الله عنهما- عن الجهاد قال: "ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فأعزها".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم".
وقد أجمل الطبري -رحمه الله- سبب ورود هذه الأعمالِ الفاضلةِ الثلاثةِ في هذا الحديث فقال: "لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن مَن ضيَّع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مُؤْنتها عليه، وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومَن لم يبر والديه مع وُفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برًّا، ومَن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك، فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن مَن حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع".
فاللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، ومرافقة الأنبياء.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي