حياة المسلم مع أخيه المسلم فيها جُود وإخاء، فلا تعامل بينهم في الهبات والهدايا بمقياس المقاضاة كالبيع والشراء، بل بأجودَ مما يعاملوك، ومن صَنع لك شيئًا فأعطه أنت، ومن بخل عليك فتفضل عليه، وكن سبَّاقًا في هذا المجال. "واعف عمن ظلمك"، وهذا من شِيَم الرجال، ونُبلِ الأخلاق، وعلوِّ المنزلة، ورفعة المكانة،....
أرسل الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق، فكان -صلى الله عليه وسلم- صاحبَ الخلق العظيم، بوصف الله له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القَلَم: 4]، وقد كانت من خصاله ما ذكرته خديجة -رضي الله عنها-: "فوالله إنك لتصل الرحم، وتَصْدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق"(متفق عليه).
وكان من جملة ما وصّى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عقبةَ بنَ عامرٍ -رضي الله عنه- وهو يمشي معه أنه قال له: "يا عقبة بن عامر! صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك"، قال عقبة: ثم قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عقبة! أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"(رواه الإمام أحمد).
هذه توجيهات نبوية مختصرة، جامعة للأخلاق والآداب والمعاملة، يكسب المسلمون بها صلة، وبذلاً، وعفوًا، وأُلفةً، ومحبة.
أولها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "صل من قطعك"، فقد حث الإسلامُ على التواصل، والتزاور، ونَبْذِ التدابر والتخاصم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا"(رواه الإمام أحمد).
وصلة من قطعك، بأن تفعل معه ما تُعَدُّ به واصلاً، فإن انتهى فذاك، وإلا فالإثم عليه، وهذا يدل على مكارم الأخلاق والترغيبِ في صلة الأرحام وغيرهم، وبَيَّن النبُّي -صلى الله عليه وسلم- فضلَ صلةِ الرحم، وأنها سببٌ في طول العمر، وزيادةُ الرزق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سرَّه أن يبسط له في رزقه، وَيُنْسَأَ له في أَثَرِهِ فليصل رحمه"(رواه البخاري).
واهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلة الرحم، فكان يوصي بهم خيرًا كما قال: "وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكِّرَكُمُ الله في أهل بيتي"(رواه مسلم).
وليست صلةُ الرحم قائمةً على المقايضة، بل أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مطلقًا قال رجل: "يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون علي"، فقال: "فإن كنت كما قلت، فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك"(رواه مسلم).
ثاني هذه التوجيهات: "وأعط من حرمك"، حياة المسلم مع أخيه المسلم فيها جُود وإخاء، فلا تعامل بينهم في الهبات والهدايا بمقياس المقاضاة كالبيع والشراء، بل بأجودَ مما يعاملوك، ومن صَنع لك شيئًا فأعطه أنت، ومن بخل عليك فتفضل عليه، وكن سبَّاقًا في هذا المجال.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "واعف عمن ظلمك"، وهذا من شِيَم الرجال، ونُبلِ الأخلاق، وعلوِّ المنزلة، ورفعة المكانة، ولذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)[الأعرَاف: 199]، وليس في القرآن آية أجمع لكلمات الأخلاق منها، وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا"(رواه مسلم).
وما عفا إنسان إلا اعتز؛ لأنه تخلص من حظ نفسه، وفَعَل ما ندبه الله -عز وجل-، والدنيا قصيرةُ الأمدِ لا تستحق التنازعَ والفرقةَ من أجلها، وكلنا على رحيل منها.
وبالعفو عمن ظلمك، تَنْزِعُ سلاحَه من يده، وتُشْعِره بالندم والأسف، وتجده يلتمس رضاك، ويحرص على مصالحتك، وقد ذكر الله من صفات أهل الجنة (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)[آل عِمرَان: 134]، في قوله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عِمرَان: 133-134].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: مع كف شرهم يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم مُوجَدَةٌ على أحد، وهذا أكمل الأحوال". ولذا قال الله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشّورى: 40].
والعفو من صفات أنبياء الله -عليهم السلام-، قال يوسف -عليه السلام- لإخوته: (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)[يُوسُف: 92]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله له: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعرَاف: 199].
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، ومَن تواضع لله رفعه الله"(رواه أحمد والترمذي).
رزقنا الله اقتفى أثر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً وخلقًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ختم النبي -صلى الله عليه وسلم- الوصايا بمناداة عقبةَ بنِ عامرٍ مرة أخرى، وهذا يدل على خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم-، فقال: "أمسك لسانك، وابك على خطيئتك، وليسعك بيتك".
أما اللسان: فهو أكثر ما يدخل الناسَ النارَ، كما ورد في الحديث: "الفم والفرج"(رواه الترمذي). وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه"(رواه الطبراني).
وقد يكون في أقواله رفعة له في درجاته، كتفريج كربة، ونصرة مظلوم، أو شفاعة حسنة، وإما أن يَزِلَّ بها في النار -كاستهزاءٍ بالدين وأهلهِ-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار سبعين خريفًا"(رواه البخاري).
وأوصاه كذلك بالبكاء على الخطيئة، أي: بالندم على فعلها، وليكن هذا الندمُ في الدنيا بالتوبة منها قبل الآخرة.
والندم شرط من شروط التوبة، كالإقلاع من الذنب، والعزم على عدم العودة، وكراهية الذنب كما يكره أن يقذف في النار، ورد المظالم إلى أهلها، وقبل أن تغرغر الروح، أو تَخْرُجَ الشمسُ من مغربها.
ثم ختم النبي -صلى الله عليه وسلم- الوصايا بقوله: "وليسعك بيتك"، لاسيما زمن الفتن وفساد الناس، ولما ظهرت الفتنة بمقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال محمد بن سيرين -رحمه الله- "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا الثلاثين".
وإذا كان في خلطة مع الناس وصبر على أذاهم فهو أخْيَر، كما جاء في الحديث: "والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"(رواه الترمذي).
فهذه ست وصايا نبويةٍ، جامعةٍ، مانعةٍ، سهلةٍ، ميسَّرةٍ، قصيرةِ الألفاظ، عظيمةِ المعاني، لن يأتيَ بهذه المعاني المختلفةِ الموزونةِ أديبٌ أو حكيمٌ بمثلها، بينما قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- لعقبة بن عامر وهما ماشيان كما ورد في الحديث.
اللهم ارزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي