لا تَمْلُّ النفوس من ذِكْر أيام حياته، وتحتار العقول من أيّ فَصْل من أيام حياته العجيبة تبدأ، فهو البحر الزاخر بالمحبة والوفاء، والبطولةِ والإباء.. من صفات أبي بكر -رضي الله عنه- أنه رجل موفَّق مُلهم، يعرف مقصد كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-...
في حياة العظماء دروس لا تُنْسَى، وعِبَرٌ لا تُمْحَى، ويعلو شأنُها إذا كان ذلك الرجل عاش التنزيل، وصاحبَ رسولِ ربِّ العالمين -صلى الله عليه وسلم-، أعمالُه كثيرةٌ عجيبة، ذكرها الله في كتابه، وأخبر بها رسولُه -صلى الله عليه وسلم-، وتناقلها الصحابة -رضي الله عنهم-.
هذا الرجل المِقْدام هو: عبد الله بنُ عثمان -رضي الله عنه-، أفضلُ الصحابة -رضي الله عنهم-، وأول الخلفاء الراشدين والأئمةِ المهدين، الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، اشتُهر بكنيته ولقبه: أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.
لا تَمْلُّ النفوس من ذِكْر أيام حياته، وتحتار العقول من أيّ فَصْل من أيام حياته العجيبة تبدأ، فهو البحر الزاخر بالمحبة والوفاء، والبطولةِ والإباء.
فأما إسلامه: فهو أول من أسلم من الرجال، دون تردد ولا تلكؤ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله"(رواه البخاري).
وهو أحب الناس إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: "سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر"، فَعّد رجالاً"(متفق عليه).
وأما حياته قبل الهجرة: فقد أنزل الله فيه (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)- وهو محمد - (وَصَدَّقَ بِهِ) وهو أبو بكر - (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزُّمَر: 33].
أما بذكر هجرته، فهو صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته ومُكْثِه في الغار، أما بعد الهجرة فالرسول -صلى الله عليه وسلم- دائمًا يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر".
أما بما بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقال -رضي الله عنه-: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه"(متفق عليه).
أما بعد وفاته -رضي الله عنه- فقبره بجانب سيد ولد آدم -صلى الله عليه وسلم-.
صاحب الأخلاق الرفيعة مع ربه، وخَلقِه، فأما مع ربه فقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "لا يُعْرَف أن الله عاتب أبا بكر في القرآن، بل ولا أنه ساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وأما مع خَلْقه، فكفار قريش ذكروا مناقبه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويَقْرِي الضيف، ويعين على نوائب الحق، محبٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولقرابته قال -رضي الله عنه-: "والله لقرابة رسول الله أحب إليّ أن أصل من قرابتي"(رواه البخاري).
وأما لقبه: "الصديق" -الذي هو أبلغ من الصادق- فقد وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وذلك حين فرح المشركون بحادثة الإسراء والمعراج، زعمًا منهم أنها مستحيلة؛ فقال -رضي الله عنه- لهم: "إني لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك، وهو خبر السماء"(رواه الحاكم).
ولهذا قيل: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح، قال أبوبكر بن عياش -رضي الله عنهما-: "ما سبقهم أبوبكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه".
وهو -رضي الله عنه- من كُتَّاب الوحي، واجتمعت فيه خصال عديدة كما في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم اليوم صائمًا"؟ قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"(رواه مسلم).
وهو خطيب فصيح، يخطب في حضور النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي غيبته، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونبي الله ساكت يُقِرُّه على ما يقول، وكان كلامه تمهيدًا وتوطئةً لما يُبَلّغه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- معونةً له، لا تَقَدُمًا بين يدي الله ورسوله، وخطبته المشهورة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"(رواه البخاري).
وهو أول من دعا إلى الله، وبذل المال لنصرة الدين، فإن كل آية نزلت في مدح المُنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين، فإنه من حين آمن بالرسالة وهو ينفق ماله، ويجاهد بنفسه، فصحبته مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تكن صحبته فقط، وإن كانت كافية في إبداء الرأي والمشورة، وإنما كانت أيضًا بالمال، بل بالمال كله.
ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر"(متفق عليه)، بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله به يوم القيامة، وما نفعني مالُ أحد قط ما نفعني مالُ أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله"(رواه الترمذي).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعطيه شيئًا من الدنيا يخصه به، بل كان في المغازي كواحد من المسلمين، بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين وقد استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- وما عُرف أنه أعطاه عَمالة، وقد أعطى عمر عمالة، وأعطى عليًّا من الفيء".
وزاده شرفًا وأيَّما شرف حين بشّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، قال سعيد بن زيد -رضي الله عنه-: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، ولو شئت لسميت التاسع"(رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه).
ويُدْعى من أبواب الجنة كلِّها حين قال: "فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبابكر"(رواه البخاري).
أبوبكر -رضي الله عنه- هو أتقى الأمة، قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)[الليْل: 17]، :"ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن هذه الآياتِ نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك.
ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها العموم، وهو قوله -تعالى-: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[الليْل: 17-18]، ولكنه مُقدَّم الأمةِ وسابقُهم في جميع هذه الأوصاف، وسائرِ الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقًا، تقيًّا، كريمًا، جوادًا، بذَّالاً لأمواله في طاعة مولاه، ونصرةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم".
وكان حريصًا على أكل الحلال، أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرج له الخراج، وكان أبوبكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبوبكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانةَ إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبوبكر يده فقاء كل شيء في بطنه".
وصدق الله حين قال في وصف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزَاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
من صفات أبي بكر -رضي الله عنه- أنه رجل موفَّق مُلهم، يعرف مقصد كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كان أبو بكر أعلمَنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-".
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "لم يبلغ علمُ أحدٍ وكمالُه علمَ أبي بكر وكمالَه؛ فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كتنازعهم في الجدِّ والإخوة، وفي الحرام، وفي الطلاق الثلاث، وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر، وكانوا يخالفون عمر، وعثمان، وعليًّا في كثير من أقوالهم، ولم يُعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء مما كان يفتي فيه ويقضى، وهذا يدل على غاية العلم".
وقال أيضًا -رحمه الله-: "وفي الجملة، لا يُعرف لأبي بكر الصديق مسألةٌ في الشريعة غَلِط فيها، بل كان ذا رأي سديد، لم تختلف الأمة في ولايته في مسألة إلا فَصَلها بعلمٍ بيّنه لهم، وحجةٍ يذكرها لهم، بيّن لهم موتَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وثَبَّتهم على الإيمان، وبيّن لهم موضعَ دفنه، وبيَّن لهم ميراثه، وبين لهم حكمَ مانعي الزكاة، وغيرُها كثير".
وهذه لا تكون إلا قوةً في الرأي من صاحبها، وشجاعةً في قلبه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في وصفه: "أبو بكر أشجعُ الناس، ولم يكن بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشجعَ منه، وهو أشجع من عمر، وعمرُ أشجعُ من عثمانَ وعلىٍّ وطلحةَ والزبير، وهذا يعرفه من يعرف سيرَهم وأخبارهم، فإن أبا بكر باشر الأهوال التي كان يباشرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أول الإسلام إلى آخره".
بل بعد وفاته نزلت على المسلمين فواجع، ولولا الله ثم ثبات قلبه لاختلف المسلمون.
مدة خلافته ثمانية وعشرون شهرًا، بارك الله في عمله وعمره، فثبَّت المسلمين وقوَّاهم، قال أنس -رضي الله عنه-: "خطبنا أبو بكر -رضي الله عنه- وكنا كالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود".
وقاتَل المرتدين، وقاتَل مانعي الزكاة، وراسل أهل الردة، وأَنْفَذَ جيشَ أسامة، حيث رأى غيرُ واحد أن يرد الجيش خوفًا عليهم، فامتنع وأمر بإنفاذه؛ رُوى أن عمر -رضي الله عنه- قال: "يا خليفة رسول الله تألّف الناس، فأخذ بلحيته وقال: يا ابن الخطاب: أجبّار في الجاهلية خوّار في الإسلام؟! على ما أتألفهم! على حديث مفترى، أم على شِعْر مفتعل؟!".
وشرع في قتال أهل الكتاب، وأمر بجمع القرآن، وذلك بعد قتل القُرَّاء يوم اليمامة، ومن أعماله: استخلافُه الفاروقَ -رضي الله عنه- بعده.
هذه مجمل أعماله في سنتين وأربعة أشهر، وكل عمل منها يحتاج إلى مثل مدة خلافته.
وأما تَرِكةُ هذا الرجلِ الثري عند وفاته: فقد أمر ابنته عائشة -رضي الله عنها- أن تَرُدَّ إلى بيت المال ما دخل في ماله، فلم يجدوا إلا قطعة بخمسة دراهم، وعبدًا، ومرضعًا، وناضحًا، ولما علم عمر -رضي الله عنه- بذلك قال: "يرحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت الأمراء بعدك".
رضي الله عن أبي بكر وعن بقية الصحابة، فقد -رضي الله عنهم- في كتابه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التّوبَة: 100].
وأوصى بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(متفق عليه).
فالواجب علينا محبتُهم، والترضّي عنهم، والذبُّ عنهم، ومعرفةُ أخبارهم وأحوالِهم، فإن كل مؤمن للصحابة عليه فضل، بلَّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فتشبهوا بالكرام إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم ارض عن أبي بكر الصديق، وعن بقية صحابة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، واحشرنا معهم مع رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي