دروس وعبر من قصة نبي الله نوح -عليه السلام-

إسماعيل القاسم
عناصر الخطبة
  1. فضائل نوح عليه السلام .
  2. وقفات مع قصة نوح عليه السلام .
  3. دروس وعبر من قصة نوح عليه السلام. .

اقتباس

لما يأس نوح -عليه السلام- من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وأنهم لا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا، وتوصلوا إلى أذيته وتكذيبه من جملةِ فِعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب، فاستجاب الله لدعوته، وأجاب طلبه....

الخطبة الأولى:

ذكر الله قصة َنبِّيه نوحٍ -عليه السلام- وما كان من قومه، في عدة سور من كتابه الكريم، وأنزل سورة كاملة في القرآن باسمه -عليه السلام-، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة، وهو مِن أولي العزم من الرسل، أرسله الله لما آل الحال بأهل الزمان إلى عبادة الأوثان.

ولنا في ذِكْرِه -عليه السلام-، وذِكْرِ دعوته مع قومه وقفات:

أولاها: أن الشيطان قد يزيّن للإنسان بابًا من أبواب الخير، حتى يؤول به المآل إلى خلافه، وهذا ما كان من قوم نوح -عليه السلام-، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن ودًّا، وسواعًا، ويغوثَ، ويعوقَ، أسماءُ رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَتْ"(رواه البخاري).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذا أول شرك كان في بني آدم، وكان في قوم نوح، فإنه أول رسول بُعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، كما قال -تعالى-: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)[نُوح: 23]"، وهكذا كل عمل لم يأمر بهما الوحيان -الكتابُ والسنةُ- فلا عمل بها حتى ولو استحسنها الناس.

ثانيهما: أن مدة دعوته لقومه طويلة، وتَنَوَّع في زمنها بالليل والنهار، والسرِّ والجهار، مما يدل على صبره وحرصه عليهم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "صَبْرُ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وعيسى -عليهم السلام- على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلِهم ومقاومتِهم قومَهم، أكملُ من صبرِ أيوبَ على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسبَّبًا عن فعله، وكذلك كان صَبْرُ إسماعيلَ الذبيحِ وصبرُ أبيه إبراهيمَ -عليهما السلام- على تنفيذ أمر الله أكملُ من صبرِ يعقوبَ على فقد يوسف".

وقد أخبر الله عن طول دعوة نوح -عليه السلام- فقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)[العَنكبوت: 14]، وتنوع في زمنها (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا)[نُوح: 5].

فلم يكترث من صدود قومه عنه، كما قال -سبحانه وتعالى-: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)[نُوح: 6-7]، ومع ذلك صبر على الدعوة، ولم يَمَلّ، ولم يكلّ.

ثالثًا: أن دعوته مع طولها وتنوعِ وسائلها لم يؤمن بها إلا قليل، قال -تعالى-: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)[هُود: 40]، بل زوجته لم توافقْه في الإيمان، ولم تصدقْه في الرسالة، مع قربها له في المَعْشرِ والمأكل، قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[التّحْريم: 10].

وكانت خيانة زوجته له في الدين كما قال ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-، بل حتى ولده الذي من صلبه لم يؤمن بدعوته حين قال له لما أتى العذاب: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)[هُود: 42].

وهذا درس للدعاة أن يدعوا ويبلغوا ولا ينظروا إلى كثرة أو قلة الأتباع، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في اتباع الأنبياء -عليهم السلام-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُلُ، والنبيُّ معهُ الرَّجُلانِ، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ"(متفق عليه).

ومن هذه الوقفات: تَلطُّف نبيِّ الله في تبليغ الرسالة مع قومه كما قال لهم: (قَال يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)[هُود: 28]، وكان ديدنهم أن يقابلوا هذا الأدبَ بقولهم: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)[هُود: 32].

وكذا رُسلُ الله -عليهم السلام- كان عندهم لطفٌ في العبارة، وصدقٌ في المعاملة، كما قال الله لموسى حين أمره بدعوة فرعون قال: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44]، وقال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النّحل: 125]. فما أجمل الكلمةَ الطيبةَ التي تنفّذ إلى القلوب كنفاذ السهم في الرمية.

ومن الوقفات: أن الحق لا يحتاج إلى ردٍّ للعقل ولا للفكر، وقد وصفوا من آمن مع نوح -عليه السلام- بأنهم (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)[هُود: 27]، أي: بمجرد أن دعوتهم استجابوا لك، من غير نظرٍ ولا درايةٍ ولا رويَّة، ويغيب عن قوم نوح أن الحق أبلج، فلا يحتاج إلى ردٍّ إلى عقل، ولا لإعمال الفكر. ولذا امتدح الله أبا بكر -رضي الله عنه- بقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الزُّمَر: 33].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

لما يأس نوح -عليه السلام- من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وأنهم لا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا، وتوصلوا إلى أذيته وتكذيبه من جملةِ فِعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب، فاستجاب الله لدعوته، وأجاب طلبه بقوله: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)[الصَّافات: 75]، وقوله: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)[القَمَر: 10].

و(قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشُّعَرَاء: 117-118]، فأمره بصنع سفينةٍ تَحْمِلُ من كلٍّ زوجين، وبعدها جاء أمر الله فأنزل على أهل الأرض ماءً منهمرًا من السماء، وأمر الأرضَ فنبعت من فجاجها، وسائرِ أرجائها، وجعلهم الله آية للمعتبرين، قال -تعالى-: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)[الفُرقان: 37].

وقال -سبحانه- أيضًا عنهم: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ)[الأعرَاف: 64]، وهكذا نهاية الطغيان واحدة، فقد قال عن عاد (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)[الأعرَاف: 72].

وقال عن قوم صالح (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[الأعرَاف: 78]، وقال عن قوم لوط: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)[الحِجر: 66]، وكذلك قوم صالح وقوم شعيب: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)[الأعرَاف: 78].

ومن الدروس أيضًا: أن ذِكْر الله لا ينفك عن أَلْسُنِ عبادِه الصالحين في ابتداء عمل الخير، فقد أمر الله نوحًا -عليه السلام- بذكره وشكره بقوله: (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)[المؤمنون: 28-29].

وكذلك قال الله لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- حين أمره بالهجرة إلى المدينة فأنزل عليه: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)[الإسرَاء: 80].

ولك أن تعرف أن من سجايا قومِ نوح -عليه السلام- الكفرَ الغليظَ، والعنادَ البليغَ، وليس هذا في الدنيا فقط، بل حتى في الآخرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال: لأمته هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمتُه، فتشهدون أنه قد بلغ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البَقَرَة: 143]، فذلك قوله جل ذكره (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البَقَرَة: 143]"(رواه البخاري).

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي