ولك أن تقف وقفة مع حال هذا الصحابي الجليل، وأن الله نجَّاه بصدقه، فكن صادقًا مع ربك وصادقًا مع خلقه، والعبد لا يسلم من غوائل الشيطان، ولكن بالتوبة تُمحى الذنوب، ومن صَدَق في التوبة نال الغفرانَ وتبديلَ السيئات، فإن الغامدية لما تابت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تابت توبة لو قُسِّمت بين سبعين من على أهل المدينة لوسعتهم"، والله يحب التوابين، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار.
غزوة تبوك أظهرت فضلَ من أنفق، وذَمَّ من أمسك، وصِدْقَ من أخلص، وقولَ من نافق، وقصةَ من تَخَلْف.
وكان أبرزهم خبرًا، وأظهرهم شأنًا، كعبَ بنَ مالكٍ -رضي الله عنه-، إنه صحابيٌّ جليلٌ عُرف بأنه من شعراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من الثلاثة الذين يهاجون عن رسول الله مع حسانَ وابنِ رواحة.
قال ابن سيرينَ: "فأما حسانُ فكان يذْكُر عيوبهم وأيامَهم، وأما عبدُ الله بنُ رواحة فكان يعيرهم بالكفر وترددهم فيه، وأما كعبُ بنُ مالك فكان يذكر الحرب فيقول: فعلنا ونفعل ويتهددهم".
وقد أسلمت قبيلة دوس فَرَقًا -أي خوفًا- من بيت قاله كعب بن مالك:
نُخيِّرها ولو نطقت لقالت *** قواطِعُهن دوسًا أو ثقيفا
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب: "ما نسي ربك بيتًا قلته"، وذكر أبو بكر تلك الأبيات، وهو -رضي الله عنه- أحدُ السبعين الذين شهدوا العقبة، وكان من أهل الصفة -وهم فقراء الصحابة، وعددهم سبعون- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرعاهم.
ولكعب بن مالك -رضي الله عنه- رواياتٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبلغ الثلاثين، اتُفِقا على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين، وقد غزا مع النبي جميعَ الغزوات عدا بدرٍ.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعاتب أحدًا تخلف عنها؛ لأن الغزوة من غير ميعاد، وهو أول من عَرَف الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم غزوة أُحُد عندما انكشف المسلمون، فقد بشّر المسلمين بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ لم يُقتل، فدعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كعبًا بلأمته -وكانت صفراءَ- فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالاً شديدًا حتى جُرح سبعة عشر جرحًا.
وأهم ملامح حياته -رضي الله عنه-: ما ذكره الله في كتابه في سورة التوبة، وبيّن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حدَثَها في قصة تخلفه في غزوة تبوك، وقد بوّب الإمام البخاري -رحمه الله- بابًا في صحيحه سماه: "بابُ حديثِ كعب بن مالك، وقولِ الله -تعالى-: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)[التّوبَة: 118]"، وذكر القصةَ مطولةً مفصلةً، ولنا أن نقف على أهم أحداثها:
أولاها: أنه -رضي الله عنه- لم يكن تخلفه تخلفًا يجعله راكنًا للراحة والدّعة، وإنما يغدو لكي يتجهز فيرجع، ولم يقض بشيء، كما قال: "فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقُهم، ولم أقض شيئًا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولقد هممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت".
الوقفة الثانية: أنه لما تخلف ورأى حال الناس في المدينة حَزن قلبُه، ولم يكن مسرورًا بتلك الحال، ولذا قال: "وكنت إذا خرجت في الناس يحزنني أني لا أرى لي إلا رجلاً مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء".
الوقفة الثالثة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأل عن كعب بن مالك وهو في تبوك بقوله: "ما فعل كعب؟" -مع أن عدد الصحابة كثير حتى ورد أنه لا يجمعهم كتاب حافظ- قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله؛ حبسه بَرْداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله".
وفي قول معاذ هذا ذَبّ عن عرض كعب قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن ذَبَّ عن عِرْض أخيه بالغيب، كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار"(رواه أحمد).
الوقفة الرابعة: لما قَفَل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة -أي رجع- قال كعب -رضي الله عنه- حضرني بَثِّي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي -وهكذا من خالف أمرَ ربِّه وأمرَ رسولِه، فإنه يتقلب من هَمٍّ إلى هَمٍّ-.
ولذا قال كعب -رضي الله عنه-: وما من شيء أهمُّ إليَّ من أن أموت، فلا يصلي عليَّ رسول الله، أو يموت رسول الله فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي، ولا يسلّم.
الوقفة الخامسة: حُسْنُ تعامُلِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مع المخطئ، فحين جاء كعب بن مالك، وسَلَّم، تبسم النبي -صلى الله عليه وسلم- تبسم المغضَب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك".
فقلت: بلى، إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سَخَطه بعذر، والله لقد أُعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتُك حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكن الله أن يُسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديثَ صدقٍ تجد عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".
الوقفة السادسة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المسلمين عن كلام الثلاثة الذين تخلفوا عن هذه الغزوة، لِمَا في ذلك من زجرهم، حتى قال: فاجتنبَنا الناسُ وتغيروا لنا، حتى تَنَكَّرَتْ في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله، فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوَه أعرض عني، وقد كانت مدة الابتلاء خمسين يومًا، وكان بعد الأربعين يومًا، أمر الثلاثة الذين تخلفوا باعتزال زوجاتهن.
الوقفة السابعة: طاعة الصحابة -رضي الله عنهم- لأمر الرسول بترك الكلام معهم، وذلك أنه لما طال على كعب بن مالك -رضي الله عنه- جفوة الناس، قال مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي - فسلمت، فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أُحبُّ الله ورسولَه؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.
الوقفة الثامنة: بعد موقفه مع ابن عمه خاصة، ومع الناس عامة، إذا بنبَطِيٍّ من أنباط الشام ممن يقدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد: فانه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلْك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فانظر كيف كان الابتلاء ومتى كان، وإذا بالمغريات تأتيه من مَلِكٍ من ملوك الدنيا، وإذا الإجابة تكون بقدر العزيمة فقال: والله هذا من البلاء أيضًا فتيممت بها التنور فسجّرته بها.
وفقنا الله بالاستمساك بحبله المتين، ونهج صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من وقفات سيرة هذا الصحابي الجليل: بعد أن مضى الحال على هؤلاء الثلاثة الذين خُلفوا خمسين يومًا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، سمع كعبٌ صوتَ صارخ يقول: "يا كعبُ بنُ مالك أبشر، فخررت ساجدًا -ولذا يستحب لمن بشر بخير أن يسجد لله شكرًا-".
قال كعبٌ: وقد عرفت أنه قد جاء فرج، وآذنَ رسولُ الله بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروننا وذهب قِبل صاحبي مبشِّرون، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرَهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت لرسول الله فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنؤونني بالتوبة، يقولون لتهنِك توبة الله عليك.
قال كعب: فلما دخلتُ المسجد سلمت على رسول الله فقال: "أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك"، قال قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: "لا، بل من عند الله".
قال كعب بن مالك من شدة فرحه: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك".
ثم قال: إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، حتى قال: ما تعمدت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله في حالهم: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)[التّوبَة: 117]، إلى قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التّوبَة: 119]، فوالله ما أنعم الله عليَّ نعمة قطُّ بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسول الله أن لا أكون كذبته، فأهلَكُ كما هلك الذين كذبوا، فإن الله -تعالى- قال للذين كذبوا حين نزل الوحي شرَّ ما قال لأحد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التّوبَة: 119].
ولك أن تقف وقفة مع حال هذا الصحابي الجليل، وأن الله نجَّاه بصدقه، فكن صادقًا مع ربك وصادقًا مع خلقه، والعبد لا يسلم من غوائل الشيطان، ولكن بالتوبة تُمحى الذنوب، ومن صَدَق في التوبة نال الغفرانَ وتبديلَ السيئات، فإن الغامدية لما تابت قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تابت توبة لو قُسِّمت بين سبعين من على أهل المدينة لوسعتهم"(رواه مسلم)، والله يحب التوابين، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار.
وفَّقنا الله للقول السديد، والفعل الرشيد.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي