وعليٌّ -رضي الله عنه- ما زالاَ -أي أبو بكر وعمر- مُكرمِين له غاية الإكرام بكل طريق، مُقدِّمين له، بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء، مقدِّمين له في المرتبة والحرمة، والمَحبَّة والموالاة، والثناءِ والتعظيمِ، كما يفعلان بنُظرائه، ويفضلانه بما فضَّله الله -عز وجل- به على من ليس مثلَه، ولَم يُعرف عنهما كلمةُ ُسوء في عليّ قط...
في الأمة رجال عاشوا حياتهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنالوا قَصبَ السّبْقِ في الدخول للإسلام، والنَّهْلَ من مَنْهله منذ نعومةِ أظفارهم، فشهدوا المشاهد، وحضروا المواقف، وأدركوا الوقائع.
ومنهم أبو الحسن عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-، ابنُ عَمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزوجُ ابنتِه فاطمةَ -رضي الله عنها-، أولُ الناس إسلامًا في قول كثير من أهل العلم، قال الحسنُ ابنُ زيدِ بن الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب: "إن عليَّ بنَ أبي طالب حين دعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام كان ابنَ تسعِ سنين"، ويقال: دونَ تسعِ سنين، ولم يعبد الأوثان قطُّ.
وُلِدَ قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فتربَّى في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يفارقْه، صلى القبلتين، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا وأحدًا والخندقَ وبيعةَ الرضوان، وجميعَ المشاهدِ مع رسول الله إلا تبوك، وفيه قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"(رواه البخاري)، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلَّفه على أهله.
وله في المشاهد بلاءٌ عظيم وأثر حسن، وأعطاه رسولُ الله اللواءَ في مواطنَ كثيرةٍ بيده، وفي أُحد بارز طلحة بنَ أبي طلحة صاحبَ لواءِ المشركين، فالتقيا بين الصفين، فبدره علي -رضي الله عنه- فضربه على رأسه حتى فلق هامته فوقع، ولما قُتل مصعبُ بنُ عمير يومَ أحد، وكان اللواء بيده دفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى علي، وكان عليٌّ ممن ثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس، وبايعه على الموت.
ومن أشهر ما تواترت به النصوص من خصائص علي -رضي الله عنه- قولُه -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر: "لأدفعن الراية غدًا إلى رجل يُحب اللهَ ورسولَه، ويُحبه اللهُ ورسولهُ، يفتح الله على يديه"، فلما أصبح رسول الله غدوا كلُّهم يرجو أن يعطاها، فقال رسول الله: "أين علي بن أبي طالب؟" فقالوا: هو يشتكي عينيه، فأُتى به فبصق في عينيه، فدعا له فبرأ، فأعطاه الراية"(متفق عليه)، وعند مسلم قال عمر: "ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم".
وقد وكَّله النبي -صلى الله عليه وسلم- بقراءة سورة براءة على الناس في الحج، فعندما كان أبو بكر بالعَرْج، لحقه عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-، على ناقة رسول الله القصواء، فقال له أبو بكر: أستعملك رسول الله على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبُذُ إلى كل ذي عهد عهده.
فمضى أبو بكر فحج بالناس، وقرأ عليُّ بن أبي طالب براءة َعلَى الناس يومَ النحر عند الجمرة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقال: "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان"، ثم رجعا قافِلَين إلى المدينة.
وهو -رضي الله عنه- ذو بذل وإنفاق، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً)[البَقَرَة: 274]، قال: "نزلت في علي بن أبي طالب -صلى الله عليه وسلم- كان عندَه أربعةُ دراهم، فأنفق بالليل واحدًا، وبالنهار واحدًا، وفي السر واحدًا، وفي العلانية واحدًا".
لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لعهدُ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمي إلي: "أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق"(رواه مسلم).
كما أن له مكانةً في قلوب الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد كان أحدَ الشورى الذين نص عليهم عمر -رضي الله عنه- كما في قوله: "لا أحد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض، فسمى عليًّا وعثمان والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن"(رواه البخاري).
وقال يحيى بن معين: "خير هذه الأمة بعد نبيِّنا: أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم عليّ، هذا مذهبنا وقول أئمتنا".
وبرع -رضي الله عنه- بالعلم، فلم يزل بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- متصديًا لنصر العلم والفتيا، وقد ورد عن سعيد بن المسيب: "أن عمر -رضي الله عنه- كان يتعوذ من مُعْضلة ليس لها أبو الحسن".
وقال سعيد بن جبير: "كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به".
وقال أبو الطفيل: "كان علي يقول: سلوني سلوني سلوني عن كتاب الله -تعالى-، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أَنَزلت بليل أو نهار".
كنَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبي تراب بعد نكاحه فاطمة، وكان نكاحها بعد بدر، فإنه: "دخل عليها -صلى الله عليه وسلم- قال أين ابن عمك؟ قالت: خرج مغضبًا، فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعًا فيه، وقد لصق به التراب، فجعل ينفضه عنه ويقول: "اجلس أبا تراب".
وهو أول يوم كُنِّي فيه أبا تراب، وفي تكنيته بذلك ليُبْسِطَه، ويذهبَ غيظُه، وتسكنَ نفسُه بذلك، ولم يعاتبْه على مغاضبته لابنته، وفيه من الفقه: الرفق بالأصهار، وتركُ معاتبتهم، وفيه ما جبل الله عليه رسولَه من كرم الأخلاق، وحسنِ المعاشرة، وشدةِ التواضع.
رزقنا وإياكم محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضي الله عنهم-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أسهب أصحابُ الصحاحِ والسننِ والمسانيدِ في ذكر فضائل علي -رضي الله عنه-، والسبب في ذلك: ما قاله الإمام أحمدُ، وإسماعيلُ القاضي، والنسائيُّ، وأبو عليِّ النَّيْسابوريُّ: "إنه لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجِياد أكثرَ مما جاء في علي"، لأنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه، وخروجُ مَنْ خرج عليه، فكان ذلك سببًا لانتشار مناقبه، مِنْ كَثْرة مَن بيَّنها من الصحابة، ردًّا على من خالفه، فاحتاج أهلُ السنة إلى بَثِّ فضائله، فكثر الناقل لذلك لكثرة من يخالف ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر، أن لكلٍّ من الأربعة -أي من الخلفاء- من الفضائل إذا حُرر بميزان العدل، لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلاً.
وروي عن الشعبي قال: "قال لي علقمة: تدري ما مَثَل عليٍّ في هذه الأمة؟ قلت: وما مَثَله؟ قال: مَثَل عيسى بن مريم؛ أحبَّه قومٌ حتى هلكوا في حبِّه، وأبغضه قومٌ حتى هلكوا في بغضه".
ومرادُ علقمة بالمشبَّه به اليهودُ والنصارى، وفي المشبَّه الخوارج والرافضة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبينًا منهج أهل السنة: "وأمَّا عليٌّ -رضي الله عنه- فأهل السنة يحبونه ويتولَّونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين".
ومحبة كبار الصحابة له ظاهرة، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وعليٌّ -رضي الله عنه- ما زالاَ -أي أبو بكر وعمر- مُكرمِين له غاية الإكرام بكل طريق، مُقدِّمين له، بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء، مقدِّمين له في المرتبة والحرمة، والمَحبَّة والموالاة، والثناءِ والتعظيمِ، كما يفعلان بنُظرائه، ويفضلانه بما فضَّله الله -عز وجل- به على من ليس مثلَه، ولَم يُعرف عنهما كلمةُ ُسوء في علي قط، بل ولا في أحد من بني هاشِم".
إلى أن قال: "وكذلك علي -رضي الله عنه- قد تواتر عنه مِن مَحبَّتِهما وموالاتِهما وتعظيمِهما وتقديمِهما على سائر الأمة ما يُعلم به حالُه في ذلك، ولَم يُعرف عنه قط كلمةُ سُوء في حقِّهما، ولا أنَّه كان أحقَّ بالأمر منهما، وهذا معروفٌ عند مَن عرف الأخبارَ الثابتةَ المتواترةَ عند الخاصَّة والعامة، والمنقولةَ بأخبار الثقات".
وبعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- حصل اجتهاد بين الصحابة في أمر قتلته، وما كان بعدها من أحداث، وقد بيَّن شيخ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله- مذهبَ أهل السنة وهو: "الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم، وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورًا، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضًا وذمًّا، ويكون هو في ذلك مخطئًا بل عاصيًا، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك. ولهذا كان الإمساكُ طريقةَ أفاضل السلف".
وكما أن الله أكرم عليًّا -رضي الله عنه- بأنه أول من أسلم، فقد أكرمه الله بأنه أفضلُ الأحياء من بني آدم في الأرض، بإجماع أهل السُّنَّة، بعد مقتل عثمان، وقد أكرمه الله أيضًا بالشهادة في رمضان، ليلة السابعَ عشر، سنة أربعين من الهجرة، وله ثلاثٌ وستون سنة على الأرجح.
رضي الله عنه وعن صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي