الله -سبحانه وتعالى- يبتلي عباده بما شاء، وكيف شاء، وقَدْر ما يشاء، فهذا مبتلى بماله، وهذا بولده، وهذا بأهله وعشيرته، كما حصل للأنبياء مع أقوامهم، وقد تجتمع ابتلاءاتٌ عدةٌ كحال أيوب -عليه السلام- حيث ابتلي في عافيته، وكذلك الدنيا بزخرفها.
ذكر الله -سبحانه- في كتابه المجيد جملة من قصص الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- فقال -تعالى-: (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)[غَافر: 78]، وهو -سبحانه- يذكر القصة لأمور عدة منها: تثبيت وتسلية قلب نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قال -سبحانه-: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)[هُود: 120]، والله -سبحانه- يذكر القصة بسياقات بليغة بديعة في إطالة غير مملة، وإيجاز غير مخل، ولنا في قصة نبي الله أيوب -عليه السلام- وقفات:
أولاها: إن الله مهما قدّر للعبد من تقدير، فإن الخير كلَّه فيه، وأنه -سبحانه- أرحم الراحمين، وهو لطيف بعباده، ولم يُنْزِل البلاء ليعذبَ عباده، وإنما ليختبرهم فمَن صبَر غنِمَ، ومَن جَزِعَ خسِر.
ثانيها: إن أقدار الله نافذةٌ على جميع البشر، على اختلاف منازلهم -من أنبياءَ، وصالحين، وأئمةٍ، ومصلحين-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل"(رواه مسلم)، وفي حديث آخر "يُبْتلَى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه"(رواه البخاري).
ثالثها: إن صفوة عباد الله وهم أنبياؤه ورسلُه -عليهم السلام- قلوبهم معلقة بالله وحده دعاءً ورجاءً وتوكلاً وإنابةً، كما قال الله إخبارًا عن أيوب -عليه السلام-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبيَاء: 83].
وقال عن زكريا -عليه السلام-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)[مَريَم: 3]، وعن يونس -عليه السلام-: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبيَاء: 87]، فلا خاب من دعاه، ولا ندم من سأله.
رابعها: حسن الأدب مع الله في الدعاء حين دعاه بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبيَاء: 83]، وكذلك قال: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ)[ص: 41].
وعبر بالمس أي: الشيء اليسير، ولم يقل أهلكني، أو آذاني مع أن المرض طال به، قيل ثمانية عشر عامًا، حتى عافه الجليس وملّه الأنيس، والنصب في قوله: (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ)[ص: 41]، أي: تعب في بدني، و(وَعَذَابٍ)[ص: 41]، أي: في مالي وولدي.
خامسها: أجاب الله دعوة نبيه أيوب -عليه السلام- حين دعاه قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)[الأنبيَاء: 84]، و(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص: 42].
وكذا دعوة زكريا -عليه السلام-: (رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى)[الأنبيَاء: 89-90].
ويونس -عليه السلام- (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبيَاء: 87-88].
سادسها: إن دعاء المضطر يجيبه الله، كما قال: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)[النَّمل: 62]، وأيوب -عليه السلام-: أجاب الله دعاءه فعافاه من مرضه، وآتاه أهله ومثلهم معهم، والله يجيب دعوة المضطر وإن كان كافرًا: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[العَنكبوت: 65].
نسأل الله -عز وجل- أن يكشف عن أهل البلاء بلاءهم، وأن يعظم أجرهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الله -سبحانه وتعالى- يبتلي عباده بما شاء، وكيف شاء، وقَدْر ما يشاء، فهذا مبتلى بماله، وهذا بولده، وهذا بأهله وعشيرته، كما حصل للأنبياء مع أقوامهم، وقد تجتمع ابتلاءاتٌ عدةٌ كحال أيوب -عليه السلام- حيث ابتلي في عافيته، وكذلك الدنيا بزخرفها.
ومن الوقفات في حياة أيوب -عليه السلام-: أن الله أثنى وامتدح أيوب -عليه السلام- بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44]، أي: رجَّاعٌ منيب، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرًا، وهذا يدل من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد".
فعاقبة الصبر عظيمةٌ، وثوابُها جزيلٌ، فقد فرَّج الله ما أهمه، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فرَّج الله عنه، وعظَّم له الأجر، وأحسن عليه الثناء".
وقال ابن عباس وابن مسعود وغيرهم -رضي الله عنهم-: "إن الله رد عليه أهله الذين ماتوا زمن مرضه بأعيانهم"، وقيل: إنه عُوِّض مثلَهم في الدنيا، وقال قتادة والحسن -رحمهما الله-: "إن الله أحياهم بأعيانهم، وزادهم مثلهم معهم"، فمن صبر نال عظيم الأجر، قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَر: 10].
ومنها: أن الله -سبحانه- جعل أيوب -عليه السلام- تسلية لأهل المصائب فيما ألمَّ بهم؛ حيث قال -سبحانه- فيه: (وَذِكْرَى لأُِولِي الأَلْبَابِ)[ص: 43]، وكذلك (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبيَاء: 84]، ففي أيوب -عليه السلام- أسوة، حيث ابتلي بأعظم ما يبتلى به الإنسان، فصبر واحتسب، حتى أتاه الفَرَج.
ثم اعلموا أن المصائب مهما عظمت، والشدائد مهما صعبت، إلا أن مصيبةَ الدِّين أكبرُ المصائب، فاصبِر وصابِر؛ فإن الجزاء من الكريم وافر.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي