الوفاء

إسماعيل القاسم
عناصر الخطبة
  1. حرص الإسلام على مكارم الأخلاق .
  2. فضائل خُلُق الوفاء .
  3. من صور وفاء النبي صلى الله عليه وسلم .
  4. أمور عظيمة يجب الوفاء بها. .

اقتباس

من أعظم الوفاء برُّ الوالدينِ، وأوفى الأوفياء الذي لا يَنْسَى والديهِ بعد وفاتهما بدعوةٍ صالحةٍ، أو إحسانٍ، أو صدقةٍ، أو صلةٍ، فإنَّ الميتَ مرتهنٌ بعمله إلاَّ من صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.

الخطبة الأولى:

الله -سبحانه وتعالى- يحبُ معاليَ الأمور، ويكرَه سَفْسافَها، وقد بَعثَ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بمكارم الأخلاقِ، فقال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ"، (رواه البخاري في الأدب المفرد).

ومِنْ جملةِ الأخلاقِ الحميدةِ التي وصَّى بها الإسلام الوفاء، فالله -سبحانه- أهلُ الوفاءِ، وقالَ -تعالى- عنْ نفسِه: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)[التّوبَة: 111].

لذا لمَّا أمر عباده بطاعتِه جازاهم بجنته، قال -عز وجل-: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[النِّسَاء: 173]، قالَ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الوفاء بالأجور -: "بأنَّه في الدنيا يكون لهم النصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات".

وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- صفة وفاء الله في دعائه على مَن مات من أصحابه، كما في حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلانَ بنَ فلانٍ في ذمتك، وحَبْل جوارك، فَقِهِ من فتنة القبر، وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم"(رواه أبو داود وابن ماجه).

والوفاءُ في البشر مِنْ خصالِ الكرام، ومِنْ شِيَم الرجالِ التي قلَّ فاعِلوها، قالَ -سبحانه وتعالى- عنْ الأممِ السَّابِقةِ: (وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)[الأعرَاف: 102].

وفي الحديثِ الصّحيحِ أنَّ ثَلاثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، رفعَ الله ما بهم مِن بلاء وأسبغ عليهم النَّعماءَ، ثُمَّ بعثَ َملَكًا على صورةِ ابنِ السَّبيلِ يطلبُ زادًا، فاعتذر الأبرصُ، والأقرعُ بأنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، وأنَّ المال وَرِثه كَابِرٌ عَنْ كَابِرٍ، فلم يثبتْ مِنْهم إلاَّ الأعمى قالَ: "قَدْ كُنْتُ أَعْمَى، فَرَدَّ الله بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَالله لا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ الله عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ".

وأعظم مَنْ أوفى بالعهود وأدَّى الحقوقِ أنبياءُ الله ورُسلُه -عليهم السلام-، قال -سبحانه وتعالى-: عنْ إبراهيمَ -عليه السلام-: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النّجْم: 37]، أيْ: أطاع مولاه وبَلَّغ الرسَالةَ إلى خَلْقِه.

أمَّا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فيكفيه تزكيةُ مولاه حين وصَفه بقوله -عز وجل-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القَلَم: 4]، فكان -صلى الله عليه وسلم- عنوانًا للوفاء، فلم ينقُضْ عهدًا مع أحد سِلمًا ولا حربًا، حِلاً أو تِرحالاً، حتى وصَفه أبو سفيان قبل إسلامِه لهرقل بأنَّ مِنْ صفاته -صلى الله عليه وسلم- أنه يأمر بالوفاءِ بالعهد.

فأيُّ وفاءٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم- نبدأ؟ أمع الأقارب، أم الأباعد، مع الأحياء، أم الأموات، مع المسلمين أم الكفار؟

فإذا تأملنا حالَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته خديجةَ -رضي الله عنها- بعد أن واراها الثرى، وطوتها الأيام إلاَّ أنه لم ينسَ حقها، فقد حفِظ وُدَّها، وكرَّرَ ذِكْرها حتى غارتْ مِنْها عائشةُ -رضي الله عنها-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يذبحُ الشاةَ، ويهديها إلى خَلائلها -أيْ: إلى صديقاتها-، وكان يكرر ذِكْرها، ويقول: "كانت وكانت وكان لي مِنْها ولد"(متفق عليه).

أمَّا مع صحابته الكرام -رضي الله عنهم- فقد وفَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحِبِ المواقف الحرجة، ورَجُلِ البطولات أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-، وفَّى له جميلَ صنعه حتى قالَ عنه: "إن أمنَّ الناس عليَّ فِي صُحبَتِهِ ومالِهِ أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر"(رواه البخاري).

وأمَّا وفاؤه -عليه السلام- مع صحابته الأموات؛ فقد روى أَبِو هريْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُؤْتَى بالرجل أظنه عليه الدَّين فَيَسْأَلُ: "هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاء؟" فَإِن حُدِّث أنه ترك وَفَاءً صَلَّى عَلَيْه، وَإلا قَالَ: صَلُّوا عَلَى صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قَال: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّىَ وَعليه دَيْنٌ فَعَلَىَّ قَضَاؤه، ومن ترك مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ"(رواه مسلم).

ووفاءُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لأُمته لا ينقضي، فقد دعا لأهل البقيع قبل وفاتِه بقليلٍ، ولم ينس فقراءَ المسلمين مِنْ أنْ يُشرِكَهم معه في أضحيَّته، فقد دَعَا بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ: "بسم الله وَالله اكبر، اللهم عَنّي، وعَمّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمتي"(رواه أبو داود والترمذي).

ووفاؤه مع الكفار ظاهر في قوله لحذيفة وأبي حُسَيل -رضي الله عنه- في بدر، حيث أخذ كفارُ قريش منهما عهدَ الله وميثاقَه بعدم القتال مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما رسول الله: "انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"(رواه مسلم).

وشفاعته لأهلِ المحشرِ ولأُمَّتِه في عرصاتِ القيامةِ، كلُّ هذا وفاءٌ مِنْه -صلى الله عليه وسلم-.

وقد جعلَ الله الوفاء بالعهود والنذور مِن صفات عباده الأبرار، كما قال -سبحانه وتعالى-: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)[الإنسَان: 7]، وكقولِه -سبحانه وتعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)[المؤمنون: 8].

فتأسوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم- في خُلُقه ومعاملاته.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

هناك أمور عظيمة يجب الوفاء بها:

أولاها: توحيدُ الله وعدم الإشراك به، كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[الأعرَاف: 172].

ثانيها: أداءُ الصلاةِ جماعةً في المسجدِ، قال عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "خمسُ صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيّع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة"(رواه أبو داود).

وقال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلَّى صلاة الفجر فهو في ذمَّة الله، فلا تُخفروا ذمة الله -عز وجل-، ولا يطلبنكم بشيء من ذمته"(رواه أحمد).

ثالثها: حفظ ميثاق الزوجية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إنّ أحقّ الشروط أن يُوفَّى بها، ما استحللتم به الفروج"(رواه البخاري).

رابعها: من أعظم الوفاء برُّ الوالدينِ، وأوفى الأوفياء الذي لا يَنْسَى والديهِ بعد وفاتهما بدعوةٍ صالحةٍ، أو إحسانٍ، أو صدقةٍ، أو صلةٍ، فإنَّ الميتَ مرتهنٌ بعمله إلاَّ من صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفعُ بهِ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له.

خامسها: مِن الوفاء أن يقفَ المرءُ مع صاحبِه في الحقِّ أيًّا مَنْ كانَ، فقد وقفَ أبو بكرٍ -رضي الله عنه- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته كلِّها، وفي تصديقِه بخبرِ الإسراء والمعراجِ، ووقف بجسده، وولده في الغار، وطريق الهجرة، ووقف بماله في جميع لحظات حياته، فكان -رضي الله عنه- نِعمَ الصاحبُ.

سادسًا: الوفاء بالعقود، لعموم قوله الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[المَائدة: 1]، فيلزم الوفاء بها، وعدمُ نكثها والإخلالِ بمقتضاها، على اختلاف أمرها في المال والنسب والبدن واللسان وغيرها.

سابعها: ومن الوفاءِ أن يؤديَ كلُّ من ائتُمِنَ على أمانة، أن يؤديَها خيرَ أداء، في التعليم والصناعة والتجارة، وكذا كلُّ صاحبِ عملٍ في عمله.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي