من البر الإحسانَ لهما، وأن لا يقولَ لهما ما يكون فيه أدنى تبرُّمٍ، وأن يجعل نفسه مع أبويه في غاية الأدب في أقواله، وسكناتِه، ونظراته، ولا يُحِدُّ إليهما بَصَرَهُ، فَإنَّ تلك نَظْرَةُ الْغاضبِ، ولا يدعوهما بِاسمهمَا، بل يتلطف لهما بأجملِ عبارة، وأعذبِ كلمة، وألينِ خطاب. ومن البر بهما بعد موتهما: التَّرحُّمُ عليهما، وصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرَّحمِ التي لا توصل إلاّ بهما، وإكرامُ صديقهما.
أمر الله بعبادته وتوحيده، وقَرَن بذلك الأمرَ بالإحسان إلى الوالدين؛ فقال -سبحانه وتعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[النِّسَاء: 36]، مما يدل على تأكد وجوب بر الوالدين، وقَرَن شكره بشكرهما: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمَان: 14].
بل وصى الله الابن بوالديه (حُسْنًا)[العَنكبوت: 8]، و(إِحْسَانًا)[النِّسَاء: 36]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي أمرناه بالإحسان إليهما، والحنو عليهما".
وقد أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن بر الوالدين أفضلُ الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام، كما في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي العمل أحب عند الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيٌّ؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"(متفق عليه).
وَرَوى ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالُوا إلى غارٍ في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأَطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يَفْرُجها، فقال، أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبيةٌ صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحتُ عليهم فحلبْتُ، بدأت بوالديَّ أسقيهما قبل ولَدِي، وإنه نَاءَ بي الشجر، فما أتيتُ حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحْلُب، فجئت بالحِلاَب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظَهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصِّبية قبلهما، والصبية يتضاغون -أي يصيحون ويستغيثون من شدة الجوع- عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، فَفَرَج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء"، ثم ذكر الآخران عملهما، ففرج الله عنهم جميعًا حتى خرجوا(رواه البخاري).
وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايعه على الهجرة وغلَّظ عليه، فقال: ما جئتك حتى أبكيتهما -يعني: والديه- قال: "ارجع فأضحكْهما كما أبكيتَهما"(رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه).
وأقبل رجل إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغى الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغى الأجر من الله؟، قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما"(رواه مسلم).
وجاء معاويةُ بنُ جاهِمَةَ السُّلَميُّ -رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! أردت الغزو، وجئتك أستشيرك، فقال: هل لك من أُم؟ قال: نعم، فقال: الزَمْها فإن الجنة عند رجلها"(رواه ابن ماجه والنسائي).
وعند أحمد: "ثم الثانية، ثم الثالثة، في مقاعدَ شتى كمثل هذا القول"، ومعنى في الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى: أي يريد أنه كرر على النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا القول في مواضعَ متعددة أنه أتاه من جانب فذكر له قصته، ثم أتاه من الجانب الآخر، ثم أتاه من أمامِه، وفي كل مرة يقول مثلَ القول الأول.
وقد وردت آثارٌ في فضل برِّ الوالدين، منها ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنِي لا أَعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدين"، وقال الإِمام أحمد بْنُ حَنْبَلٍ -رحمه الله- " بِرُّ الْوالدين كفَارةُ الكبائر".
ومهما بلغ الابن من البر والإحسان لوالديه فلن يجازيَ عملَهما وتربيتَهما.
لقي عبدُ الله بْنُ عمَرَ -رضي الله عنهما- رَجُلاً من الأَعْراب بِطَريق مكة، فَسَلَّمَ عليه عبدُ الله، وحَمَلَه على حِمَارٍ كان يَرْكَبه، وَأَعطاهُ عمامةً كانت على رأسه؛ فقال ابنُ دينارٍ فقلنَا له: أصْلَحَكَ الله إنهم الأعرابُ وهم يَرْضَوْنَ باليسيرِ، فقال عبدُ الله: إن أَبا هذا كَان وَادَّا لِعمرَ بنِ الخطَّابِ -رضي الله عنه-، وَإِنِّي سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "إِنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه"(رواه مسلم)، فكيف بابن عمرَ لو وجد أَبَ هَذَا الأعرابي؟ وكيف به مع أبيْهِ عمرَ بْنِ الخطاب؟!
وشهدَ ابْنُ عمرَ رَجُلاً يمانِيًَا يَطوفُ بالبيتِ، حمل أُمَّهُ وراءَ ظَهْرِهِ يقول:
إِنِّيَ لَها بَعِيْرُهَا الْمُذَلَّلُ *** إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لم أُذْعَرِ
ثم قال: يا ابنَ عمرَ أَتُرَاني جَزَيْتُهَا؟ قال: "لا، وَلا بزفرةٍ واحدةٍ"(رواه البخاري في الأدب المفرد).
وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- إِذَا أراد أن يخرج وأُمُّه في بيْتٍ آَخَرَ، وقف على بابِها وقال: السلام عليكم يَا أُمَّاه ورحمة الله وبركاتُهُ، فتقولُ: وعليكم السلام يا بُنيَّ ورحمة الله وبركاته، فيقول: رَحِمَكِ الله كما ربيتيني صغيرًا، فتقول: رَحِمَكَ الله كما بررتني كبيرًا.
وليسعدُ البارّ بوالديهِ في الدّنيا بِبِرِّ أَوْلادِهِ به، وهو دَيْنٌ عاجلُ الوفاء، فَبِرُّوا بِوالديكم أحْياءً وَأَمواتًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الرجل لتُرْفَعُ درجتُه فِي الجَنَّة، فيقولُ أَنَّى هَذَا؟ فيقال: باسْتِغفار ولدكَ لَكَ"(رواه ابن ماجه).
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ من البر الإحسانَ لهما، وأن لا يقولَ لهما ما يكون فيه أدنى تبرُّمٍ، وأن يجعل نفسه مع أبويه في غاية الأدب في أقواله، وسكناتِه، ونظراته، ولا يُحِدُّ إليهما بَصَرَهُ، فَإنَّ تلك نَظْرَةُ الْغاضبِ، ولا يدعوهما بِاسمهمَا، بل يتلطف لهما بأجملِ عبارة، وأعذبِ كلمة، وألينِ خطاب.
ومن البر بهما بعد موتهما: التَّرحُّمُ عليهما، وصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرَّحمِ التي لا توصل إلاّ بهما، وإكرامُ صديقهما.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
كما أنَّ الله أمر بِبِرِّ الوالدين، فقد نهى عن عقوقهمَا بالقولِ أو الفعلِ أو بهما، قال -سبحانه-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)[الإسرَاء: 23].
وجاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس"(رواه البخاري).
وفي رواية: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! شهدتُّ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الخمس، وأديتُ زكاة مالي، وصمتُ شهر رمضان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصب أصبعيه- ما لم يَعُقَّ والديه"(رواه أحمد).
وقد حث الإسلام على بر الوالدين حتى مع اختلاف دين الوالدين، قال -سبحانه-: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمَان: 15]، قيل: إنها نزلت في سعد بن مالك، قالت أم سعد: "أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تَكْفر"(رواه الترمذي).
ومن صور العقوق، إهمال رعايتهما، وتقديم رغبات النفس أو الزوجة أو الصَّديق على حقِّ الوالدين، ومن صور العقوق ما فعله إخوة يوسفَ -عليه السلام- به، وما أصاب والده نَبِيَّ الله يَعْقُوْبَ -عليه السلام- من الهمِّ وَالحزن وَالبكاء حتى ابيضَّتْ عيناه.
ومنه فعلُ ابنِ نوحٍ -عليه السلام- حين لم يُؤمِن بدعوة أبيه، فلمَّا حَلَّ عذابُ الله بهم، وركِبَ نوحٌ ومن معه السفينة قال نوحٌ -عليه السلام-: (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)[هُود: 42-43].
وقد يمتد العقوق إلى غير الوالدين، بل إلى الأمة كلها، ابتُلِيَ أبو الفرج ابنُ الجَوزِي -رحمه الله، وهو الشيخ الإمام، العلامة الحافظ، المفسِّر شيخ الإسلام- بعقوق ولده له وهو الذي أخذ مُصَنَّفَاتِ وَالده وَباعها بَيْعَ الْعَبِيد، وَلِمَن يَزِيدُ، وَلَمَّا حُبِسَ والدُه في وَاسِطٍ تَحِيَّل على الكتب بالليل وأخذ منها ما أراد، وباعها ولا بثمن الْمِدَادِ، ولما امْتُحِنَ وَالدُه بَدَأَ ابْنه يُؤَلِّبُ الخصومَ على والِدِهِ.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي