فعلى المسلم أن يجتهد في الصلة حتى ولو لقي جفاءً وبُعدًا، .. وعلى المسلم أن يحرص على لقاء الأقارب القريبين والبعيدين، وأن يتلمَّس حاجاتِهم، وأن يبذل ما أمكن لهم، قال ابن أبي جمرة: "تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع: إيصالُ ما أمكن من الخير، ودفعُ ما أمكن من الشر بحسب الطاقة".
جاء الإسلام حافظًا لحق القريب والبعيد، فيه الخير والفلاح، والتكاتف والنجاح، والألفة والمحبة، فما من فرد فيه إلا وله حق في حياته وبعد مماته.
ومن أعظم ما أوصى الله به عباده صلةَ الأرحام، وهم الأقارب الذين بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا.
وقد أمر الله بصلة الرحم في ثالث الحقوق العشرة بعد الإحسان للوالدين فقال -سبحانه-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا)[النِّسَاء: 36]. قال البَغَويُّ -رحمه الله- في قوله: (وَبِذِي الْقُرْبَى)[النِّسَاء: 36]، أي: "أحسنُوا لذي القربى".
وهي من الأخلاق والمكارم التي دعا لها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي حديث أبي سفيانَ صخرِ بنِ حرب -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في قصة هرقل، أن هرقل قال لأبي سفيان: "فماذا يأمركم به؟ - يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة"(متفق عليه).
وصلة الرحم سبب لدخول الجنة، كما في حديث خالد بن زيد الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلا قال: "يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم"(متفق عليه).
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقةَ السر تطفئ غضب الرب، بل أمر الله الموسرين بتفقُّد المحتاجين من قرابتهم والإحسان إليهم بقوله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النّحل: 90].
(وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى)[النّحل: 90]، أي: إعطاء القرابة ما تدعو إليه حاجتهم، وخص ذوي القربى لأن حقهم آكد، ورغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في البذل والصدقة لهم، فقال: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة"(رواه ابن ماجه).
قال النووي -رحمه الله-: "صلة الرحم: هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، والسلام، وغيرِ ذلك".
ومن بركة صلة الرحم في الدنيا ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يبسط له في رزقه، ويُنْسأَ له في أثره، فليصل رحمه"(متفق عليه). ومعنى "يُنْسأ له في أثره": أي: يُؤَخَّر له في أجله وعمره.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "إن الزيادة كنايةٌ عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعِمَارةُ وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتُه عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله: أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة، والصيانةِ عن المعصية، فيبقى بعده الذكرُ الجميل، فكأنه لم يمت - إلى أن قال -: أو أن الزيادة على حقيقتها".
وهي من نبل أخلاق المتحلي بها ومن كمال إيمانه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"(متفق عليه).
ومما يدل على أهمية الرحم أن أولَ ما نزل في الدعوة تخصيصُ الأقارب بالتبليغ، كما في قوله -تعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)[الشُّعَرَاء: 214].
وفقنا الله لطاعته، وجنبنا معاصيه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
في صلة الرحم أُلفةٌ ومحبة واجتماع، وفي قطيعتها بُغْض وتفرُّق واختلاف، لذا أمر الله بالصلة ونهى عن القطيعة، فقال -سبحانه-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[محَمَّد: 22]، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرّعد: 25].
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"(رواه مسلم)، وفي الحديث: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت: بلى يا رب، قال: هو لك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاقروا إن شئتم: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[محَمَّد: 22]،"(متفق عليه، واللفظ للبخاري).
وفي السنن مرفوعًا: "أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمي"، قال ابن حجر -رحمه الله-: "إنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، فالقاطع لها منقطع من رحمة الله".
وفي حديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنة قاطع"(متفق عليه)، أي: لا يدخلها قبل أن يحاسب على قطيعته.
فعلى المسلم أن يجتهد في الصلة حتى ولو لقي جفاءً وبُعدًا، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قُطِعَت رحمُه وصلها"(رواه البخاري).
وعلى المسلم أن يحرص على لقاء الأقارب القريبين والبعيدين، وأن يتلمَّس حاجاتِهم، وأن يبذل ما أمكن لهم، قال ابن أبي جمرة: "تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع: إيصالُ ما أمكن من الخير، ودفعُ ما أمكن من الشر بحسب الطاقة".
وفقنا الله للصلة، وجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي