إن قيام الليل عبادة تصل القلب بالله، وتجعله قادرًا على التغلب على مغريات الحياة على مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت فيها العيون وتقلب النُّوام على الفرش، ولكن قوام الليل يهبون من فرشهم الوثيرة وسررهم المريحة ويكابدون الليل، لا ينامون إلا القليل؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة ..
أيها المسلمون: ما زلنا بصدد شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وقد تكلمت في الجمعة الماضية عن إطعام الطعام ولين الكلام، وهما من الدرجات، وأما اليوم نتحدث عن العمل الثالث من أعمال الدرجات وهو قيام الليل، وكما جاء في الحديث: "الصلاة بالليل والناس نيام". فأقول وبالله التوفيق.
إن قيام الليل عبادة تصل القلب بالله، وتجعله قادرًا على التغلب على مغريات الحياة على مجاهدة النفس في وقت هدأت فيه الأصوات ونامت فيها العيون وتقلب النُّوام على الفرش، ولكن قوام الليل يهبون من فرشهم الوثيرة وسررهم المريحة ويكابدون الليل، لا ينامون إلا القليل؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة، قد مدح الله -عز وجل- أهل قيام الليل وميزهم عن غيرهم بقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
وقوام الليل يحبون مثلنا النوم والراحة والدعة، ولكنه نفضوا غبار الكسل، واستحثوا الخطى، وقووا العزائم، فهذا عبد العزيز بن أبي رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمر يده عليه يقول: "إنك للين، ووالله إن في الجنة لألين منك"، ولا يزال يصلي الليل كله.
ومجاهدة النفس صعبة المنال في البداية، ولكنها سهلة الانقياد بالإصرار والعزيمة في النهاية، كما قال ثابت البناني: "كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة".
إذا ما الليل أظلـم كابدوه *** فيسفـر عنهمُ وهـم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا *** وأهـل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود *** أنين منه تنفـرج الضلـوع
قالت ابنة العامر بن عبد قيس: "ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟! فقال: يا بنية: إن جهنم لا تدع أباك ينام".
فقيام الليل هو شرف المؤمن كما جاء ذلك في الحديث الصحيح: "شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس".
وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يدع قيام الليل أبدًا حتى في السفر، كان يصليه على راحلته حيثما توجهت به.
وعدد ركعات القيام ثلاث عشرة ركعة، أو إحدى عشرة ركعة، كما جاء ذلك في حديث عائشة وابن عباس، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كانت صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة ركعة، يعني من الليل". رواه البخاري.
والوتر من القيام، وهو أدنى الكمال، وهو سنة مؤكدة، من أصرّ على تركه ردت شهادته كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله-، وهو آكد من جميع التطوعات من السنن الرواتب وغيرها؛ قال الإمام أحمد -رحمه الله- عمن يترك صلاة الوتر: "هو رجل سوء".
وتتأكد صلاة القيام في رمضان؛ حيث ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي الجملة فصلاة الليل من موجبات الجنة، وقد دل عليه قول الله -عز وجل-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات: 15-19]، فوصفهم بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم.
وكان بعض السلف نائمًا، فأتاه آتٍ فقال له: قم فصلّ، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل هم خزّانها.
ورأى بعضهم الخليل بن أحمد -رحمه الله- في المنام، فقال له: ما فعل الله بك؟! قال: "لم تنفعنا تلك الرسوم، وإنما نفعنا ركعات كنا نقومها بالليل، طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم".
يا رجال الليل هبوا *** رب داع لا يرد
ما يقـوم الليل إلا *** من له عزم وجد
ليس شيء كصلاة *** الليل للقـبر يعد
قال أبو الدرداء: "صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبر".
وقيام الليل يوجب علو الدرجات في الجنة، قال الله تعالى لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء: 79]، فجعل جزاءه على التهجد بالقرآن في الليل أن يبعثه المقام المحمود، وهو أعلى درجاته –صلى الله عليه وسلم- في الجنة.
قال عون بن عبد الله: "إن الله يدخل الجنة أقوامًا وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا عرفوهم، فقالوا: ربنا: إخواننا كنا معهم فيم فضلتهم علينا؟! فيقول: هيهات هيهات، إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمؤون حين تروون، ويقومون حين تنامون".
ويوجب قيام الليل أيضًا من نعيم الجنة ما لم يطلع عليه العباد في الدنيا؛ قال الله -عز وجل-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16، 17]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يقول الله -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، اقرؤوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)".
قال محمد بن كعب القرطبي: "أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قدموا عليه لأقر تلك الأعين عنده".
وكان أبو سليمان الداراني يقول: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
ومن أهم الأسباب التي تعوق عن قيام الليل: الذنوب والمعاصي؛ فإن قيام الليل منحة ربانية للصالحين من عباده، وذكر ذلك الحسن بقوله: "إن الرجل ليذنب فيحرم به قيام الليل"، ونبه إلى ذلك الفضيل بن عياض فقال: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم كبّلتك خطيئتك".
فمن ترك الذنوب والمعاصي والسهر على القنوات الفضائية أعانه الله على فعل الخيرات والطاعات، فقيام الليل دأب الصالحين، بعيد عن الفاسقين، قريب من التائبين، وفسّر ذلك بشر الحافي عندما قال: "لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدًّا".
وسئل الحسن البصري: "لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهًا؟! قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره".
ولفضل القيام -معشر المؤمنين- كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وكان لا يدعه أبدًا، وإذا مرض أو كسل صلى قاعدًا، وكان -عليه الصلاة والسلام- يحض ويحث على قيام الليل فيقول: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم". رواه الترمذي بإسناد حسن.
وفي الليل ساعة مستجابة، وذلك أن الله -عز وجل- ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داع فأستجيب له؟!".
وقد ورد في صحيح مسلم عن جابر –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة". رواه مسلم.
فيا من يريد إجابة لدعائه، وتفريجًا لهمّه، وتنفيسًا لكربته، وتوسيعًا لرزقه، وشفاءً لمرضه، وحفظًا لعياله، ودفعًا لأعدائه، وطلبًا لمرضاته سبحانه، وطمعًا في جنته، ونجاة من ناره: عليك بدعاء ربك في وقت الإجابة في الثلث الأخير من الليل كل ليلة، عسى أن تكون من المقبولين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أما بعد:
أيها المسلمون: إن من أراد قيام الليل والقرب من الله، ومن أراد أن ينال هذه المنزلة الرفيعة، عليه أن يأخذ نفسه بهذه الأسباب التي تعين المسلم على قيام الليل، ومنها:
لا تكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلب النوم ويثقل عليك القيام.
لا تتعب نفسك بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح، ويضعف بها البدن، فإن ذلك أيضًا مجلب للنوم.
لا تترك القيلولة بالنهار، فإنها سنة للاستعانة بها على قيام الليل، وفي الحديث للصحيح: "أقيلوا؛ فإن الشياطين لا تقيل".
سلامة القلب من الحقد على المسلمين، ومن البدع والخرافات، ومن هموم الدنيا؛ فإن هذه الأمراض تصرف عن طاعة الله.
لا ترتكب الذنوب والأوزار بالنهار؛ فإن ذلك مما يقسي القلب، ويحول بينك وبين أسباب الرحمة.
خوف يلزم القلب مع قصر الأمل، والتفكر في أهوال يوم القيامة ودركات جهنم، كما كان شداد بن أوس –رضي الله عنه- إذا دخل إلى الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: "اللهم إن النار أذهبت النوم عني"، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
عبــاد ليل إذا جن الظلام لهم *** كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم *** هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرًا *** يشـيِّدون لنـا مجدًا أضعناه
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي