شرح حديث "سبعة يظلهم الله في ظله"

إسماعيل القاسم
عناصر الخطبة
  1. سبعة أصناف جليلة .
  2. شرح حديث سبعة يظلهم الله .
  3. إكمال العبادة والقيام بحقها .
  4. مجاهدة النفس في طاعة الله. .

اقتباس

رجل قلبه معلق بالمساجد، شبَّهه بالشيء المعلق في المساجد كالقنديل والسراج مثلاً، إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، فهو يألف الصلاة ويحبها، وكلما فرغ من صلاةٍ إذا هو يتطلع للأخرى، لِمَا للصلاة من تجدد صلة العبد بربه، وهذا المصلي لمَّا آثر طاعة الله، وأوى إلى الله، أظله في ظله...

الخطبة الأولى:

من رحمة الله بعباده أن جعل لهم من الثواب على أعمالهم ما تهنأُ به نفوسُهم، وَتَقرُّ به عيونُهم، فيزدادوا عملاً إلى عملهم، وحرصًا إلى حرصهم.

ومن جملة ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- من ثواب من اتصف بالصفات الفاضلة، والأعمال الحميدة، ما جاء في الحديث المتفق عليه: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه".

هذا الحديث حوى جملة ممن اتصفوا بصفات كريمة في الدنيا، تحلوا بها، وتخلقّوا بآدابها، فوُعدوا بالثواب الجزيل، والخير العميم، والمراد بهؤلاء السبعة: سبعة أصناف وليس المرادُ سبعةَ أشخاص، وهم لا ينحصرون في عدد معين.

وقد تتعدد الأصناف أيضًا فليست مقصورة على السبعة الواردة في الحديث فقط، فقد ذكر الإمام ابن حجر -رحمه الله- أكثر من عشرين صنفًا يظلهم الله في ظله، مثل: "من أنظر معسرًا أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"(رواه مسلم). وكإظلال الغازي، وعونِ المجاهد، وإرفادِ الغارم، وعونِ المكاتب، والتاجرِ الصدوق.

وإضافة الظل لله -سبحانه-، إضافة تشريف -كبيت الله، وناقة الله- والظل ليس ظلَّ العرش، وإنما ظلٌّ يخلقه الله لأهل هذه الأصناف على الكيفية التي يعلمها -سبحانه-، والشمس العظيمة تدنو من رؤوس الخلائق قدر ميل - قيل: ميل مسافة، وقيل: ميل المكحلة - في يوم وصفه الله: (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)[المعَارج: 4]، فيخص الله فئامًا من الناس في هذا الظل الحقيقي:

أولاهم: الإمام العادل وهو الذي يحكم بشريعة الله حكمًا وعملاً، وهو من يضع كل شيء في موضعه، من غير إفراط ولا تفريط، وبدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- لكثرة مصالحه، وعموم نفعه.

ولأن الإمامَ العادلَ مصلحتُه تَعُمُّ المسلمين، وتنفعهم، فيقيم فيهم شرع الله، ويحكم فيهم بالعدل، وينصف مظلومهم من ظالمهم، ويعينهم على طاعة الله -عز وجل-، فلهذا صار أولَ هؤلاء السبعة، ويدخل فيه القاضي، وكل من ولي أمرًا من أمور المسلمين، وقد ورد "إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما وَلُوا"(رواه مسلم).

والثاني: شاب نشأ في عبادة الله، وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- زيادة: "حتى توفي على ذلك" و"أفنى شبابه ونشاطه في عبادة الله".

وخص فترة الشباب لأن العبادة في الشباب أشدُّ، وأشقُّ، لكثرة الدواعي، وغلبةِ الشهوات، وقوةِ البواعث على اتباع الهوى، وهذا الشاب قد أفنى شبابه ونشاطَه طيلةَ عمره في عبادة الله، فذنوبه قليلة وحسناته كثيرة.

وقد ورد في الحديث: "إن ربك ليعجب للشاب لا صبوة له"، فالشاب الناشئ في العبادة له شأن في فقهه وعلمه ونصحه؛ لكونه قد تربى على العلم والفضل والعمل والعبادة والخير، فيكون بذلك نافعًا لنفسه ولغيره، ولأن الشاب عند كبره قد يتقلد المناصب ويتحلى بالفضائل، ويكون إمامًا في العلم، وقد يتخلق بالأخلاق الواردة في هذا الحديث.

والثالث: رجل قلبه معلق بالمساجد، شبَّهه بالشيء المعلق في المساجد كالقنديل والسراج مثلاً، إشارة إلى طول الملازمة بقلبه، وإن كان جسده خارجًا عنه، فهو يألف الصلاة ويحبها، وكلما فرغ من صلاةٍ إذا هو يتطلع للأخرى، لِمَا للصلاة من تجدد صلة العبد بربه، وهذا المصلي لمَّا آثر طاعة الله، وأوى إلى الله، أظله في ظله.

والرابع: رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرّقا عليه، تحابّا في الله لا لأجل مالٍ ولا جاهٍ ولا نسب، ولكنه رآه قائمًا بطاعة الله فأحبه، وهذه المحبة اجتمعا عليها في الدنيا، وبقيت بينهما حتى فرق بينهما الموت، وهما على ذلك.

وقد ورد في فضل المحبة في الله ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي"(رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته مَلكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا غير أني أحببته في الله -عز وجل-، قال إني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه"(رواه مسلم).

الخامس: رجل دعته امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، وذات منصب: يعني شريفة ليست دنيئة، والجمال أمر يدعو النفس إلى التطلع للمرأة، والمنصب يستلزم المال، فاجتمع منصبٌ ومالٌ وجمال، وهي أمور قلَّ أن تجتمع في امرأة، وخص المنصب والجمال، لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، لكن هذا الرجل لم يتأثر بالمغريات، بل قال: إني أخاف الله، فلم يخف غير الله، كما قال يوسف -عليه السلام- لامرأة العزيز معاذ الله، قال القرطبي -رحمه الله-: "إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله، ومتين تقوى وحياء".

جعلنا الله من أهل البذل والعطاء والعفاف.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية:

ومن الأصناف السبعة: رجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، والصدقة سميت بذلك لدلالتها على صدق باذلها، وهي بركةٌ في المال وتزيده، قال -سبحانه-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)[سَبَإ: 39]، وفي الحديث: "ما نقصت صدقة من مال"(رواه مسلم)، وهذا الرجل تصدق بصدقه مخلصًا فيها بقلبه، حتى ولو كان أحدٌ عن شماله ما علم بتلك الصدقة، لشدة إخفائها، وصدقة التطوع في السر أفضل، لأنها أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء.

والصدقة فيها تفريج هَمّ، وتنفيسُ كرب، وعطفٌ، ورحمةٌ، والصدقة كما قال ابن القيم -رحمه الله- "عَجَبٌ من العُجاب".

والصنف الأخير في هذا الحديث: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ذِكْرُ الله أمرنا الله -سبحانه- بالإكثار منه، فقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)[الأحزَاب: 41]، وأوصى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الرجل فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"(رواه الترمذي)، وهذا الرجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، شوقًا إلى ربه، وكان خاليًا ليس عنده أحد، أو أنه خالي القلب من الدنيا وزخارفها، فقلبه خالٍ إلا من ذكر الله في هذه الخلوة القلبية والمكانية.

قال ابن حجر -رحمه الله- تنبيهًا بعد شرحه لهذا الحديث: "إن هذه الخصالَ السبعة، يشترك فيها النساء إذا كان المراد بالإمام العادل الإمامة العظمى، وإلا فيمكن دخول المرأة حين تكون ذات عيال، فتعدل فيهم كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهم- أن: "المرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها"(رواه البخاري)، وتخرج أيضًا خصلة ملازمة المسجد، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ذَكَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء السبعة، إذ كلٌّ منهم كَمَّل العبادة التي قام بها، فالإمام العادل كمَّل ما يجب من الإمارة، والشاب الناشئ في عبادة الله كمَّل ما يجب من عبادة الله، والذي قلبه معلق بالمساجد كمَّل عمارة المساجد بالصلوات الخمس؛ لقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)[التّوبَة: 18]، والعفيف كمَّل الخوف من الله، والمتصدق كمّل الصدقة، والباكي كمّل الإخلاص".

وهؤلاء المتصفون بهذه الصفات قد خالفوا هواهم، وجاهدوا أنفسهم على تحقيق أمر ربهم، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن الإمام المسَلَّطَ القادرَ لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشاب المُؤْثِر لعبادة الله على داعي شبابه، لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد، إنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات، والمتصدق المُخْفيُّ لصدقته عن شماله، لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك، والذي دعته المرأة الجميلة الشريفة فخاف الله -عز وجل- وخالف هواه، والذي ذكر الله -عز وجل- خاليًا ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لِحرِّ الموقف وعَرَقِه وشدتِه سبيلٌ عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحرُّ والعرقُ كلَّ مبلغ، وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى".

جعلنا الله وإياكم ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي