الوالدان بهجةُ الدنيا وأُنْسُها، وسرورُ الحياةِ وطِيْبُها، هما الحبُّ وهما الوفاء، هما السكينةُ وهما الطمأنينة، هما جَنَّةُ الفؤادِ وهما من البلاءِ جُنَّة، هما طمأنينة النفس؛ إن تكالبت عليها الهموم، وسلوتها إن تداعت بها الأحزان. الوالدان...
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها المسلمون: في الحياة يعيشُ المرء مُغْتَبِطاً إن هو ظَفِرَ بِصَاحِبٍ كريمٍ، في الرخاء يكون له جليس، وفي الضراءِ يكون له أنيس. يعيشُ المرء مُغْتَبِطاً إن أدرك صاحباً يشاطره الحياةَ بتقلباتها؛ بسرائها، وضرائها، بنعمائها ولأوائها، بصفائها وأكدارها، بإقبالها وإدبارها، وكُلُّ امرئٍ له في الحياةِ خِدْنٌ وصاحب، فصاحبٌ نحو المعالي يأخذُ، وصاحبٌ نحو المخازي يجذبُ، و "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"، و "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ".
عباد الله: ويَعِزُّ على المرءِ في الدنيا أن يظفرَ بصاحبٍ وَفِيٍّ، تتوافر فيه خلال الجَلال، يَغُضُّ الطَّرْفَ عن الزلل، وَيُقِيْلُ العثرةَ على عجل، إن رأى ثُلمةً سدها، وإن رأى حسنةً عدها، إن أبصر سيئةً سترها، وإن أبصر حسنةً نشرها، يواسي عند المصيبة، ويشاطرُ عند النعمة، يَكْتُمُ السِّرَ ويخفيه، وَيَصْدُقُ النُّصْحَ ويُسديه، لا يحملُه الحُبُّ على الإقرار بباطل، ولا يحملُه الغضب على نكران الجميل، يَصُونُ الصُّحْبَةَ أنْ يُكَدِّرَ ماءَها حجَرُ حاسدٍ، أو يُلَوِّثَ نقاءَهَا وقيعةُ نمام.
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى عَلَى العَهْدِ إِنَّهُمْ *** وَإِنْ كَثُرَتْ دَعْوَاهُمُ لَقَلِيْلُ
أُقَلِّبُ طَرْفِي لَا أَرَى غَيْرَ صَاحِبٍ *** يَمِيْلُ مَعَ النَّعْمَاءِ حُيْثُ تَمِيْلُ
أَكُلُّ خَلِيْلٍ هَكَذَا غَيْرُ مُنْصِفٍ **** وَكُلُّ زَمَانٍ بِالكِرَامِ بَخِيْلُ
إنه الصاحب الكريم، جَمَع من المكارم أزكاها، ومن الخَلالِ أسماها، ومن الفضائل أتمَّها.
إنَّ أخاكَ الحقّ مَن كان معك *** ومَن يضرّ نفسَه لينفعَك
ومَن إذا ريبُ الزمان صدعَك *** شتّتَ فيك شملَه ليجمعَك
فصاحب من له في الفضل مقام كريم، وله في الوفاء عهد قديم، وله في المروءة دربٌ سليم، فرحم الله صاحباً أحسن الصحبَةَ، وحفظ الودَّ، وبذل المعروف.
ولئن تساءلتَ يوماً: أينَ في الناس من يجمعُ معاني الصحبةِ السامية؟ وأين مَنْ تَطِيْبُ الصُّحبةُ بظلالهم؟ فتذكر أنه يجب أن تكون أنت الصاحبُ المنشود.
كُن صاحباً تتسامى النفوس حين تُنسَب بصحبتها إليه.
كن صاحباً يَشْرُفُ بصحبتك من يصافيك، وينعم بصحبتك من يدانيك.
إذا أعجبتك خلال امرئٍ *** فَكُنْه يكن منك ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات *** إذا جئتها حاجبٌ يحجب
وسائلٌ ملهوفٌ تلجلجت في فؤاده لواعج الشوق؛ يتساءل: هل من صاحبٍ وَفِيٍّ يحفظ الصُّحبَةَ، ويحمي المودةَ، لا يتغير بتغير الحال، ولا يتقلبُ بإقبال وذهاب المال؟ يتساءلُ: هل من سبيل إلى صاحبٍ يدومُ عهده ويبقى، إن أحيا فمودةٌ وإخاء، وإن أمت فوفاء ودعاء؟
فكانت أبلغُ إجابةٍ تكفي وتفي قولُ من قال:
فإنك إن طويت الأرض عرضاً *** وطولاً وارتقيتَ بكل صعبِ
ووافيت السماء وغصت بحراً *** ونقبت الفلاةِ بكل رحبِ
فلن تلقى من الأصحاب أوفى *** من الأبوين أفديهم بقَلْبِي
الوالدان صاحبا حُبٍّ ووفاءٍ وإحسان، جاء النص الشرعيُ بشأنهما يعِظُ ويُذكِّر ويوصي، قال: يَا رَسُول الله، مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: "أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّكَ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أبُوكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
الوالدان بهجةُ الدنيا وأُنْسُها، وسرورُ الحياةِ وطِيْبُها، هما الحبُّ وهما الوفاء، هما السكينةُ وهما الطمأنينة، هما جَنَّةُ الفؤادِ وهما من البلاءِ جُنَّة، هما طمأنينة النفس؛ إن تكالبت عليها الهموم، وسلوتها إن تداعت بها الأحزان.
الوالدان تتهاوى كُلُّ صحبةٍ دونَ صحبَتِهِما، فلا والله ما صَدَقَ مَنْ لَمْ يَصْدُقْ في صُحْبَتِهِ لوالديه، ولا والله ما عَزَّ من لم يَخْفِض لهما جناح الذل من الرحمة: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23-24]، (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 14-15].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوثِ رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-...
أيها المسلمون: وأجملُ الصُّحبَةِ: صحبةُ الوالدين، ومرَافَقَتُهُما، والرفقُ بهما من أعظمِ الأعمالِ، وأجَلِّ القُرَبْ.
ولا يزالُ المرء يَتَرَقّى في منازل الفائزينَ، ويتقلبُ في رياض المفلحين؛ ما دام يعلو في مسالك البِرِّ، ويعرجُ في سماء الإحسان.
مَنْ أَحسنَ صُحبةَ والديه أحبه الله ورضي عنه، وأحبه الناس، وشكروا سعيه.
مَنْ أَحسنَ صُحبةَ والديه يجني ثمرةَ بِرِّه سعادةً لا تغادِرُ قلبَه، وسروراً لا يفارِق محياه، وصلاحاً وبراً في ولده وأهله، قال عبد الله بنُ مسعود -رضي الله عنه- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله -تعالى-؟ قال: "الصلاة على وقتها" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين" قال: قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"(متفق عليه).
صحبةُ الوالدينِ والإحسانُ إليهما، وصيةُ اللهِ لعباده: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].
صحبةُ الوالدينِ ملازمةٌ لهما في الحياةِ، تتبعٌ لرضاهما، سعيٌ في مصالحهما، إدخالٌ للسرور عليهما، رفقٌ في التعامل معهما، إنفاقٌ من طَيِّبِ الكسبِ عليهما بِطِيْبِ نفسٍ وسخاء يَدٍ، مع إقرارٍ بسابق الإحسانِ منهما عليك، وسالفِ الفضلِ منهما إليك، وأنك بِحُسنِ البِرِّ لهما، إنما تَرُدُ بعضَ الجميلِ الذي سبقا به إليك. ولا يزال السابق بالفضل له المقام الأتمُّ، والذكر الأكمل، والمعروف الأسبق: (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 24].
صحبةُ الوالدينِ درجاتٌ كسائر القربات، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق في الخيرات، والبرُّ منازلُ تتفاوتُ، ومقاماتٌ تتفاضل.
عباد الله: وكلما عظمت محبة الصاحب لصاحبه تضاعف العطاءُ، وازداد البذل، وتقاربت القلوبُ، وتصافت الأرواحُ، وحَلَّ الصبرُ، وصدق الوِدُّ، وتلاشى العتابُ وأُحضِرَتِ المعاذير.
ومن هنا: لن تتحقق صحبةُ الولد لوالديه حتى تتمكن محبتَهما من قلبه، ولن يبلغ المرءُ من البر أكرمَ المنازل، حتى يكونَ باعثُ البِرِّ حُبٌّ ورحمةٌ وإجلالٌ وتقدير، وإيمانٌ ورجاءٌ وطاعةٌ لله وتوقير.
ولن يَصدقَ في صحبةِ والديه من جعل لهما فَضْلَةَ وَقْتِه، وخاتمةَ أشغاله.
ولن يَصدقَ في صحبةِ والديه من لم يُلَبِّ الحوائجَ لهما إلا بعد إلحاحٍ وطولِ طلب. ولن يَصدقَ في صحبةِ والديه من لم يتنازل عن كثير من محابِّه لما يحبانه، ويترك كثيراً من رغباته إلى ما يرغبانه.
ومن فقد والديه أو أحدَهما فأعظمُ ما يعملُه دعواتٌ لهما واستغفار، وتَرَضٍ لله عنهما بتضرعٍ وانكسار، ولا يزال العبدُ في قبره ينعم بنعيم الحسنات وتكفير السيئات بصالح الدعوات التي تأتي من ولده من بعده، فعن أَبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رواه مسلم).
اللهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي