ولأنَّ الأممَ تُؤتَى في الغالب من جهل أبنائها؛ فقد أكمل بعضُ من نُحسِنُ بهم الظنَّ من جَهَلة الأمة مشروعَ عدوِّهم، فانتسَبوا للسلف وتسمَّوا باسمهم، وأنشأوا جماعاتٍ ومُنظَّماتٍ اختَطفَت ذلك الاسمَ الشريف واستأثرَت به، ثمّ ارتكَبَت باسمه انحرافات وافتعَلَت خُصومات. ولم يُفوِّت عدوُّهم تلك الفرصةَ فدفَع بعملائه ليركَبوا معهم المَوجة ويُوسِّعوا الهُوَّة بالانتساب للسلف الصالحين، ونصَّبوا أنفسَهم مُمثِّلين للسّلفيّة، فحُمِل خطؤهم على صوابها...
أمّا بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدي هديُ محمّد، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
ألا وإنَّ خير الوصايا بعد المحامِد والتحايا الوصيةُ بتقوى الله العظيم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]. من اتَّقى اللهَ كان معه، وأحبَّه وتولاَّه، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128]، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)[التوبة: 4].
فإذا حظِيَ العبدُ بمعيَّة الله هانَت عليه المشاقُّ، وانقلَبَت المخاوفُ في حقِّه أمنًا، فبالله يهُون كلُّ صعبٍ، ويسهُلُ كل عسيرٍ، ويقرُب كلُّ بعيد، وبالله تزولُ الهموم والغموم، وتنزاحُ الأكدارُ والأحزان؛ فلا همَّ معَ الله، ولا غمَّ ولا حزن. وإذا كان الله معك فمَن تخاف؟! وإذا كان عليك فمن ترجو؟!
أيّها المسلمون: الحضارةُ الإنسانيّة بمُكتشفاتها ومُخترعاتها غالبًا ما يكون آخرُها خيرًا من أوَّلها، بخلاف أديان الناس ومُعتقداتهم؛ فإنَّ مُتديِّني كلِّ دينٍ صَحيحٍ يكون أوّلهم خيرًا من آخرهم، وسلَفُهم أهدَى من خلفهم، ذلك أن الحضارة بدأت تحبو، في حين أن الأديان وُلِدَتْ واقفة، والحضارةُ تراكمٌ معرفيّ، أمّا الدين فهو وحيٌ مُنزَّل وهديٌ مُحكَم.
والفرقُ بين الأتباعِ الأوائل لكلّ دينٍ صحيح وبين مُتأخِّريهم كمثل الفَرق بين الماء عند منبعه والماء عند مصبِّه بعدما جرى وخالطَ ما خالطَ من الكدر والشوائب؛ لذا فإن خير يهود أنبياؤهم وأحبارُهم الأوّلون، وخيرَ النصارى عيسى ابنُ مريم وحواريُّوه، وخيرَ المسلمين محمد وصحابتُه المرضيُّون ثمّ الذين يلُونهم ثمّ الذين يلُونَهم.
وكلّما غبَرت أمّةٌ أو قرنٌ من الناس طُوِي معهم عِلمٌ ورُفِع معهم فَضل، مِصداقُ ذلك ما وَرد في وصيّة الرسول الكريمِ لأصحابِه قبل الرّحيل: "إنّه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عَليها بالنواجِذ، وإيّاكم ومُحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة".
وإذا شئتَ أن تعرفَ قُربَ أهلِ دينٍ من دينِهم فانظر إلى قُربهم مِن سلَفهم، فكلّما اقتربوا اهتدَوا، وكلّما جفَوا ضلُّوا، أمّا إن لعنَ خلفُ أمةٍ سلَفَهم فإنّه لا خيرَ فيهم؛ فهم دسيسةُ عدوٍّ وصنيعةُ كائد. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا رأيتَ الرجلَ يذكر أحدًا من الصحابةِ بسوءٍ فاتَّهمه على الإسلام".
ولأجلِ هذا زخرَت مُصنَّفاتُ الأئمّة بالحثِّ على التمسُّك بحُجَزِ السلَف عند الاتباع وفهمِ نصوص الوحيَيْن؛ فهو أمَنةٌ من الانحراف وضمانةٌ من الضلال.
أيّها المسلمون: يتأكَّدُ الحديثُ عن المنهج الحقّ في وقتٍ تعدَّدت فيه المرجعيَّات، وتبايَن الاستمداد، وقلَّ العلماء، وندَر النّاصحون، حين تكثُر الشُّبَه، ويُلبَّسُ الحقُّ على أهله، ويحُولُ بينهم وبينَه دعاةُ الضّلالة وعِداةُ الهداية وأدعياءُ العلم، وهم أقربُ إلى الضّلال وإن تباكَوا على الإسلام ورسوله والآل.
وحين أدرك العدوُّ هذه الحقيقةَ سعى لفصلِ خَلَف هذه الأمة عن سلَفِها، وإيغار قلوب مُتأخِّريها على مُتقدِّميها، وتشويه سِيَرهم وتواريخهم.
عبادَ الله: ولأنَّ الأممَ تُؤتَى في الغالب من جهل أبنائها؛ فقد أكمل بعضُ من نُحسِنُ بهم الظنَّ من جَهَلة الأمة مشروعَ عدوِّهم، فانتسَبوا للسلف وتسمَّوا باسمهم، وأنشأوا جماعاتٍ ومُنظَّماتٍ اختَطفَت ذلك الاسمَ الشريف واستأثرَت به، ثمّ ارتكَبَت باسمه انحرافات وافتعَلَت خُصومات. ولم يُفوِّت عدوُّهم تلك الفرصةَ فدفَع بعملائه ليركَبوا معهم المَوجة ويُوسِّعوا الهُوَّة بالانتساب للسلف الصالحين، ونصَّبوا أنفسَهم مُمثِّلين للسّلفيّة، فحُمِل خطؤهم على صوابها، وغُلُوُّهم على وسَطيَّتها واعتدالها، حتى صارَ الإسلامُ يُعادَى باسمِ مُحاربة السلفيّة، وصار الإعلامُ يصِف المُتطرِّفين والإرهابيّين بأنهم سَلفيُّون، ووُصِفت عَودةُ الأمة لدينها الصحيح بالسلفية المُتطرِّفة تنفيرًا وتشويهًا للتديُّن، وأصبَحَت السلفيَّةُ سُبَّةً وجريمةً يُلاحَقُ أربابُها، ويَتبرَّأ منها أصحابُها الذين هم أصحابُها، (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[الفتح: 26].
يا أيّها المسلمون: سَلفُكم هو محمَدٌ وصحابتُه والقرون المُفضَّلة؛ فبأيِّ كتابٍ وجدتموهم يقتلون المسلمين، أو يخوّنون المُستأمنين، أو يدعون من دون الله الأئمةَ والصالحين، أو يتبرَّكون بالأضرحة وقبور السالفين، أو يُثيرون الفتن بين المسلمين؟!
سلفُكم -يا أيها المسلمون- حريصون على جمع الكلمة، ووحدة الصفِّ، وتنقية الدين من تحريف الغالين وانتحال المُبطِلين وتأويل الجاهلين. سلفُكم كانوا أهدى طريقًا، وأقومَ مسلكًا، وأتبعَ للكتاب والسنة، وأعلمَ بالوحي؛ فكانوا حقًّا مسلِمين.
الانتسابُ للسّلف ليس دعوَى يدَّعيها شخصٌ أو جماعة، أو يتبنَّاها حزبٌ أو مُنظَّمة؛ بل هي طاعةٌ واتباع، ووحدةٌ واجتماع، ونبذٌ للفُرقة والاجتماع.
منهج السلف الصالح هو الإسلام الأول الذي عرفه أبو بكرٍ وعمر وعثمانُ وعليّ، هو النَّهجُ الذي قاتلَ لأجله خالدٌ وسعد، واستُشهِد في سبيله حمزةُ ومُصعب، هو الجادَّة الذي سلَكها ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس، وهو السبيلُ الذي ترسَّمه الحسنُ البصري والنَّخعيُّ والشعبيُّ، وهو الفِجاجُ التي طرَقَها أبو حنيفة ومالك والشافعيُّ وأحمد، هو الطريق الذي خطا فيه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، وأولئك كلّ أولئك وكثيرٌ غيرهم على منهجهم، سِيَرُهم محفوظة، وآثارُهم معلومة، وكتبُهم مُسطَّرةٌ ومخطوطة.
فالسعيدُ من تمسَّك بما كان عليه السلف، واجتنبَ ما أحدثَه الخلف، وما أسهل الاتباع وأيسر الاهتداء إن عافَى الله من دعاة الضلالة.
وقد شهِد الله -تعالى- بقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100]. عن عمرانَ بن حُصين قال: قال رسول الله: "خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونَهم"(أخرجه البخاري ومسلم).
أيّها المسلمون: إنّ منهج السلف الصالح هو المنهجُ الذي يُمثِّل هذا الدين العظيم في شُموله وصفائه كما يُمثِّل المسلمين في اجتماعهم وائتلافهم، إنه اسمٌ ينتظِمُ الإسلامَ كلَّه كما ينتظِمُ جميعَ المسلمين الثابتين على الإسلام الذي كان عليه النبيُّ وأصحابُه، فهو شريعةُ الله في صفائها، وهو عَقيدةُ الحق في نقائِها، لا يحقُّ لجماعةٍ أو فردٍ أن تحتكِرَه. فالذي يَرسمُ حدودَ هذا المنهج هو القرآنُ الكريم، والذي يُحدِّدُ معالمَه سنةُ النبيّ الخاتم، وهو الأمَنةُ من كلِّ خلافٍ واختلاف.
بذلك المنهج تُعرفُ الحادثات من الدين فتُتَّقى، ويُعرفُ الأدعياءُ في علم الشريعة فيُحذَرون، ويُعرفُ الشاقُّون لصفِّ الأمة ووحدتها فيُجتنَبون، ويُعرف المُخلِصون المُهتَدون فيُتَّبعون.
تكمُن أهمّيّةُ نهج السلف الصالح في كونه التطبيقَ العمليَّ الأوّل للإسلام، تحت سمعِ وبصَر رسولِ السلام -عليه الصلاة والسلام-، وتمثَّلَه التابعون بعد ذلك تحتَ سمع وبصر الصّحابة المشهودِ لهم بالخيريَّة والاصطفاء، وكذلك تابِعوهم. فمَن الذي يُزايِدُ على ذلك النهج؟! ومن يجرؤُ أن يدَّعيَ أن الحق خلافَه؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
الحمد لله وكفى، خلقَ خلقَه واصطفَى منهم من اصطفَى، وجعل خيرتَهم أنبياءهم ومن ترسَّم سبيلَهم واقتفَى، وتبارك الله مُثيب الطائعين لأمره ومن خالفَ منهم إن شاء عذَّب أو عفا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مَثيل ولا شبيه ولا كِفَا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ومن لمنهجهم اقتفَى.
أيّها المسلمون: منهجُ السلف منهجٌ شاملٌ في النّظر والاستدلال، في التلقِّي والاستمداد، والارتباط بالنصِّ الشرعي، وفي نبذ المُحدثات في السلوك والتعبُّد، ولا يكادُ يخلو أحدٌ من المُنتسبين إليه في كل مكانٍ من خللٍ في الفهم أو في التطبيق، إلا أن الخلاف في امتثال هذا المنهج في بعض الفروع والجُزئيات لا يجوز أن يكون داعيًا إلى تصنيف المُخالِف أو نبزه باسمٍ يقطعُ نسبتَه إلى السلف؛ فإنّ الأصل في كل مسلمٍ لم يتلبَّس بشيءٍ من الأصول البدعية المُحدثة أنه على نهج السلف وإن وقع في معصيةٍ أو خالفَ في مسألةٍ اجتهادية، ومن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة، وشِعارُ المُخالف: مُفارقة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
أيها المسلمون: لقد تسرَّب الوهنُ للأمة بقدر ما تسرَّب إليها من البدع والمُحدثات، والانحراف عن الطريق الحقّ، وضعف الاستمداد من الوحييْن، وإذا كان المسلمون يلتمِسون اليومَ طريقًا للنهوض فليس لهم من سبيلٍ إلا وحدة جماعتهم، ولا سبيل إلى وحدة الجماعة إلا على الإسلام الصحيح، والإسلامُ الصحيح مصدرُه القرآن والسنة، وهذه خُلاصة الاتجاه السلفي؛ عودةٌ بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، فلا تلتبِسْ عليكم السُّبُل، ولا تُضلَّنكم الأهواء، ولا يصُدَّنكم كثرةُ الأعداء أو سَطوة الأدعياء.
اللهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي