الفرصةَ الفرصةَ

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. الحياة فرصة واحدة. .
  2. من فرص الحياة الضائعة: فرصة الشباب، فرصة الوقت، فرصة الغنى، فرصة العمر. .
  3. دعوة إلى استغلال فرص الحياة قبل الندم والفوات. .

اقتباس

كم من شاب أو شابةٍ أضاع شبابه في أودية اللهو واللعب، يرعى فيها شهواته، ويَسُوْم في أنحائها نزواتِه، يتتبع مساقط الهوى حيث كانت، ليتضلع من حمأتها ثِقلاً عن الطاعة، وكرهًا لها، وبعداً عن أهلها...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71].

أيها المسلمون: كم في هذه الحياة من عجائبَ تحير أذهان العقلاء المؤمنين، وغرائبَ تدهش أحلام الحكماء الصالحين، ألا وإن منها عجيبةً غريبة تدعوهم إلى الحزن والألم يوم يرون أكثر الناس في غيهم سادرين، وعن آخرتهم غافلين، لم يعتبروا بتقلب الزمان وسرعته، وفناء العمر وقِصرِ مدته، وهجومِ الموت وفجأته، واختلافِ أطوار الحياة ومرور يد التبديل على أحوال أهلها فيها، فكأنهم خُلقوا للدنيا ليخلدوا عليها، ولو أيقنوا بالانتقال منها فكأنهم لا يُحاسبون على ما قدموا على ظهرها!!.

إن الحياة الدنيا فرصة واحدة لا تتكرر لأهلها، ومدة يسيرة ما أسرع ما تتقضّى، فهل من عاقل يستغل هذه المهلة وما فيها من فرص، ويخرج منها بالظفر بالنجاة والمخلص؟.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان:33].

عباد الله: كم يُحزن الغيورَ تضييعُ كثير من المسلمين فرصَ الخير المتاحة لهم في هذه الحياة، وكثرةُ تهافتهم على انتهاز فرص الشر والضرر فيها، ويحتجّ أحسنهم حالاً بأن الحياة طويلة، وأيام التعويض ممكنة، وباب التوبة مفتوح، والرب غفور رحيم!

ويا له من احتجاج متهافت لم يوافق مكانَه، ولم يُبحْ للمضيِّع ضياعَه وخسرانَه. قال بعض الصالحين: " واعجباً من موجود لا يفهم معنى الوجود، فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه. يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة، والحديث الفارغ، وطلب اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ".

كم من شاب أو شابةٍ أضاع شبابه في أودية اللهو واللعب، يرعى فيها شهواته، ويَسُوْم في أنحائها نزواتِه، يتتبع مساقط الهوى حيث كانت، ليتضلع من حمأتها ثِقلاً عن الطاعة، وكرهًا لها، وبعداً عن أهلها، ويناديه الشيطان وهو في ذلك المنتجع الآسن: عشْ شبابك، وتمتع بحياتك، ويغنِّيه قولَ القائل:

إنما الدنيا طعامُ *** وشرابٌ ومُدامُ

فإذا فاتك هذا *** فعلى الدنيا السلامُ!

فيصدِّقه الشاب الغافل أو الشابة اللاهية، ليقضيا زمن الشباب النفيس في سعي غير مشكور، يعود عليهم بالخسارة والندامة.

فإذا أتى المشيبُ –إن لم يباغتِ الأجلُ قبلَه- يتحسر مَن فرّط في شبابه؛ فقواه في المشيب قد ضعفت، وهمته إلى الخير قد فترت، ورصيده من الحسنات قليل، وعزمه إلى السباق إليها كليل. فعند ذلك يرفع صوته قائلاً:

بَكيتُ عَلى الشَبابِ بِدَمعِ عَيني *** فَلَم يُغنِ البُكاءُ وَلا النَحيبُ

فَيا أَسَفا أَسِفتُ عَلى شَبابٍ *** نَعاهُ الشَيبُ وَالرَأسُ الخَضيبُ

عَريتُ مِنَ الشَبابِ وَكانَ غَضّاً *** كَما يَعرى مِنَ الوَرَقِ القَضيبُ

فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَوماً *** فَأُخبِرَهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ.

أيها الأحباب الفضلاء: كم من صحيح صرف صحته في متع الدنيا ومطالبها، ولم يجعل فيها نصيبًا لآخرته؛ كصلاة فريضة يحافظ عليها، ونافلة معها يكثر منها، وصيام أيام فاضلة يسارع إليها، وختمات للقرآن متواترة يداوم عليها، وخُطى صالحة إلى نفع عباد الله يواصلها، وبينا هو على بطر صحته وأشرها إذ بالأمراض تنزل به، وتحل في أعضائه، فتثقل أركانه، وتتكدر نفسه، وتقصر آماله، وتنذره الأسقامُ بقرب الرحيل، ولقاء الملك الجليل، وحينها يعض أصابع الندم على تفريطه أيام عافيته، ويتمنى أن ترجع إليه صحته ليكون من المسابقين إلى الصلاة في المساجد، والمداومين في السحر على القيام، والمكثرين في النهار من الصيام، والساعين بالخير إلى نفع الأنام.

وكم من حي عاش عمره لخدمة دنياه، وتغذية شهواته وهواه، دون أن يفكر بآخرة سيصير إليها، وأعمال قدمها سيحاسب عليها، وربما عاش مراحل العمر كلها في كنف الغفلة والعبث، فشبابه وكهولته ورجولته وشيخوخته وهرمه جعلها وقفًا على طاعة النفس والشيطان، فيا حسرته يوم نزول الموت وسكراته، وانفصام عمره وحياته، وتذكره حينئذ فرصة الحياة وتضييعه لها، وتمنيه الرجوع إلى الدنيا ليغير مسار حياته السالفة الضائعة، ولكن هيهات أن يرجع ما قد فات.

قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:99-100].

وكم من غني أبطره غناه، وقاده إلى مساخط مولاه، أنفق ماله في لذاته المحرمة، وخطواته الآثمة، لم تعرفه سبل البر بخير قدمه فيها، ولا حاجات الحياة قضاها لأهلها، فرصيده من الخير معدوم أو يسير، ورصيده في الشر متنوع كثير.

وكم من غني أمسك بالبخل ماله، فلا زكاة يؤديها، ولا صدقةَ يسارع إليها، ولا مواطنَ خير يقدم من ماله فيها.

فإذا ذهبت السكرة وحضرت الفكرة يوم الفقر بعد الغنى، والعجز بعد القدرة، والموت بعد الحياة؛ يقول الغني المسرف في الحرام، والباخل عن حقوق الله وحقوق الأنام: يا ليتني قدمت لحياتي. ولكن لا يجديه تمنيه، في النجاة مما هو فيه.

فنسأل الله أن يجعلنا من أهل اغتنام فرص الحسنات، المسابقين إلى فعل البر والخيرات.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: هناك فرص عديدة في هذه الحياة إذا استغلها المسلم نال خيراً كثيرا، وإذا فرط فيها خسر خسرانًا كبيرا.

فالشباب فرصة عظيمة للإقبال على العمل الصالح والإكثار منه؛ فالقوة موجودة والرغبة مساعدة، فمن استغل هذه الفرصة نشط للعمل وأعانه ذلك على الاستمرار عليه في بقية عمره، فمن شب على شيء شاب عليه.

وإياك -أيها الشاب- أن تفكر بطول الأمل، وأن فرص الحياة في المستقبل العمري كثيرة؛ فتدنيس طرف الشباب في الخطيئة سيدنس بقية ثوب الحياة، والأجل قد يقطع الأمل.

والعافية غنيمة باردة تعين المرء على فعل الخير، فإذا مرض لم يستطع فعل ذلك، وحضرته ندامته، وأما من استغل فرصة الصحة فسارع إلى الخير فيها فإنه متى مسه السقم لا يندم؛ لأنه يكتب له الأجر على تلك الأعمال التي قطعه عنها المرض.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحا"(رواه البخاري وأبو داود).

والغنى فرصة ثمينة يستطيع به المسلم إنفاق المال في وجوه الخير ونفع الخلق به، فإذا لم يفعل ندم حين يفتقر، أو يُجتاح ماله، أو يُحال بينه وبين الصدقة بأي حائل آخر، فيتحسر يوم موانع البذل على أيام القدرة عليه.

وقد جاء رجل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" متفق عليه.

والفراغ -يا عباد الله-فرصة أخرى يستطيع المسلم أن يملأه بفعل الخير والتزود بالكثير منه، سواء الخير في جانب العبادة، أم الخير في جانب العلم والمعرفة، أم الخير في نفع الناس ومساعدتهم، ولن يسلم الإنسان في هذه الحياة كلما تقدمت به من أعمال وعلاقات وأحوال تضيق عليه وقته، وتذهب بزمان يومه وليلته كله، فيتمنى حينئذ عودة نعمة الفراغ.

وصدق القائل:

اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع *** فعسى أن يكون موتك بغتهْ

كم صحيحٍ رأيت من غير سقم *** ذهبت نفسُه الصحيحة فَلتهْ

فيا أيها المسلم: اعمل قبل أن لا تستطيع أن تعمل؛ فصلِّ قبل أن لا تستطيع أن تصلي، وأكثر من الخطى إلى المساجد قبل أن لا تستطيع أن تصل إليها، وصم قبل أن لا تستطيع أن تصوم، وحج قبل أن لا تقدر على الحج، واعتمر قبل أن تتمناها ولا تسطيع نيلها.

ويا أيها العالم يا أيها الداعي: انشر العلم قبل أن لا تقدر عليه، سارع إلى نصح الناس وتعليمهم قبل أن يأتي زمان لا تستطيع فيه تعليم آية أو حديث أو مسألة، ولا تقدر فيه على كتابة كلمة أو إلقاء نصيحة أو تغيير منكر.

لا تحبس عن الناس من العلم والتجربة ما ينفعهم، بل مت فارغًا-كما قيل-وسلم للحياة وأهلها عصارة نعمة الله عليك بالمعرفة والخبرة؛ لتكون مستريحًا بأنك مت وقد قدمت للحياة شيئًا نافعا.

فبادروا-معشر العقلاء-إلى الأعمال قبل انقطاع الآمال، ودنوِّ الآجال، فماذا تنتظرون؟

هل تنتظرون إلا فقراً مُنسيا، أو غنى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ كِبَرًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أو فتنة تجعلكم أحلاس البنيان، وخوفًا يدعكم ممسكي اللسان والأركان بين الجدران، ورياحًا تعصف بكم إلى العجز عن طاعة ترغبون فيها، وعبادةٍ تتمنون التلذذ بها، أو الدجالَ فشرُّ منتظَر، أو الساعةَ والساعةُ أدهى وأمر.

ألا فاغتنموا-رحمكم الله- قبل أن تتندموا، وسارعوا قبل أن يُسرع بكم، وانتصروا على النفس والشيطان، قبل التحسر والخسران، وفوزوا على التسويف والفتور، قبل الأسف في القبور ويوم النشور.

واتعبوا اليوم لتستريحوا غدا، واكدحوا في الحياة لتكونوا عند الله من السعداء.

واعملوا بهذه الوصية النبوية:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض جسدي، فقال:" كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وعد نفسك في أصحاب القبور "، وقال لي: "يا ابن عمر، إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك؛ فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا" رواه الترمذي والبيهقي.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" رواه الحاكم.

جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن إذا نُصحوا انتصحوا، ومتى دُعوا إلى الخير أجابوا، وإذا عملوا أحسنوا وأصابوا.

هذا وصلوا وسلموا على خير البشرية...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي