يقفانِ عند جمرةِ العقبةِ ويستعدانِ لتنفيذ الأمر، فيعرضُ الشيطانُ لإبراهيم، يحاول أن يغويَه ويثنيَه عن طاعةِ الله، ولكنْ أنَّى لحِيَلِ الشيطانِ أن تنطليَ على الخليل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ"...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه.
الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, الله أكبر, الله أكبر, ولله الحمد.
أما بعد: ها همُ الآباءُ وحولَهم أطفالُهم؛ هذا يلاعب، وهذا يضاحك، وهذا يكَفكِفُ الدمع, وأما الخليلُ إبراهيم فإنه كَبُرَ وشابَ, ولما يرزقْ تلك المشاعرُ بعد، ونيرانُ الشوقِ إلى الأبوةِ تشتعلُ في قلبه, يرسلُ الخليلُ الدعوات: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصافات: 100].
يسمعُ اللهُ دعوةَ الخليل، ذلكَ الذي عَرَفَ ربَّه في الرخاءِ, فعَرَفَهُ ربُّه في الشدة؛ (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90], تأتي الإجابةُ عجلى؛ (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)[الصافات: 101], ألا ما أروعَ البشرى!، وما أعظمَ الفرحة!.
ها هو إسماعيلُ يخرجُ من بطنِ أمِّه وليداً, ويَكبُرُ شيئاً فشيئاً، وإبراهيمُ يعيشُ معه بعاطفةِ الأبوةِ التي طالما افتقدها، يفرحُ لفرحه، يحزنُ لحزنه، يرى فيه المستقبل، يرى فيه الأملَ والامتداد؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)[إبراهيم: 39].
يَكبُرُ إسماعيلُ ويترعرعُ في رعايةِ أمِّه وأبيه، حتى صارَ يذهبُ ويمشي مع أبيه، ثم تحدثُ المفاجأة, أمرٌ جللٌ لم يكن بالحُسبان؛ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)[الصافات: 102], وحيٌ من اللهِ فيهِ أمرٌ مباشر بذبحِ إسماعيل!.
وماذا يعني ذلك؟؛ إنه يعني توقفَ الفرحة، وانقطاعَ الأمل، ووحشةَ الحياة, هذه موازينُ الدنيا، وتقديراتُ أهلِها، وإنها عن الخليلِ لبعيدة, الخليلُ الذي أعلنَ استسلامَهُ للهِ؛ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131].
لم يكن ليترددَ في تنفيذِ أمرِ الله؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقينِ أنه الخيرُ وإن كان ظاهرُه الشر، وأنه اليسرُ وإن كان ظاهرُه العسر، وأنه البقاءُ وإن كان ظاهرُه الفناء.
إنه ذاتُ الدرسِ الذي تعلمتْهُ منه هاجرُ حين تركها وابنَها الرضيعَ في الصحراءِ، ثم ولى وسعتْ إليه تستنجدُه, فلما لم تفلحْ محاولاتُها قالت له: "آللهُ أمركَ بهذا؟", قال: "نعم"، فقالت: "إذاً لن يضيعَنا".
أسلمَ إبراهيم، وأسلمَتْ هاجر، والآنَ جاءَ الدورُ على الابنِ إسماعيل؛ (يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102].
إبراهيمُ يترقبُ الجواب، يا تُرى هل سيصلُ كما وصل؟ هل سيسلمُ كما أسلم؟, فيأتي الجوابُ من الابنِ الصغير؛ (يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].
اللهُ أكبر!، لقدْ نجحَ إسماعيل، لقدْ وصلَ إلى ما وصلَ إليه أبواه، إنه أسلمَ واستسلم, ها هما يذهبانِ إلى منى، وقد امتلأتْ قلوبُهما رضاً وثقةً وتسليماً لأمرِ الله, إنهما يسيرانِ في طريقِ النصرِ والفلاحِ الذي لا يكونُ إلا حيثُ أمرَ الله.
يقفانِ عند جمرةِ العقبةِ ويستعدانِ لتنفيذ الأمر، فيعرضُ الشيطانُ لإبراهيم، يحاول أن يغويَه ويثنيَه عن طاعةِ الله، ولكنْ أنَّى لحِيَلِ الشيطانِ أن تنطليَ على الخليل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ", يتقدمُ إبراهيمُ ليبتعدَ عن مواطنِ الإغواءِ؛ خشيةً على نفسِه أن تَتْبَعَها، فيقفُ عند الجمرةِ الثانية، فيكرِّرُ الشيطانُ المحاولة، ويكرِّرُ إبراهيمُ الهجومَ, "فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ"، يتقدمُ إلى الجمرةِ الثالثةِ والشيطانُ يحاولُ المحاولةَ الأخيرة، وإبراهيمُ يقضي عليه القضاءَ الأخيرَ في ثباتٍ وصمودٍ على أمرِ الله, "فَرَماهُ بِسبعِ حصياتٍ حتى ساخَ في الأرضِ".
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصافات: 103], تجاوزَ إبراهيمُ كلَّ العقبات، وتغلبَ على كلِّ الشهوات، وصبرَ على أعظمِ صنوفِ البلاء، وحانتْ ساعةُ الصفر، ولحظةُ الفراق، فإذا بالمنادي ينادي: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 104 - 107].
أما وقد نَجَحَ إبراهيمُ في البلاء، فلا حاجةَ حينَها إلى الأشلاء, انتصرَ إبراهيمُ في المعركة، ففدى اللهُ إسماعيلَ بالكبش؛ لتَتِمَّ نعمةُ الله، ويكتملَ له مقامُ الشكرِ؛ كما اكتملَ مقامُ الصبر؛ (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 108 - 111].
وها نحنُ إلى اليومِ نستنُّ بسنةِ إبراهيم -عليه السلام-، وننحرُ الأضاحي، وفي ذلكَ ذكرى لنا بيومِ النصر العظيم, الانتصارُ على شهواتِ النفس، وغوايةِ الشيطان، الانتصارُ بتنفيذِ أوامرِ الله، وتطبيقِ شرعِه الحكيمِ على أنفِسنا وأهلينا وأولادِنا, اليومُ يومُ عيد، اليومُ يومُ شكر، اليومُ يومُ فرحةٍ وسرور..
أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
أما بعد: أما الخطبةُ الثانيةُ فهي لمصانعِ الرجال, ومشاعلِ أملِ الأمة, إنها لأحفادِ هاجرَ ومريمَ وخديجة, إنها لكنَّ يا معشرَ النساء.
يا معشرَ النساء: ها أنتُنَّ قد جئتُنَّ إلى مصلى العيد؛ كما كان الصحابياتُ يأتين، تقولُ أمُّ عطيةَ الأنصارية: "أُمِرْنَا أنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الحُيَّضَ، والعَوَاتِقَ، وذَوَاتِ الخدور فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ، ودَعْوَتَهُمْ", جئتُنَّ لتصلْنَ تلكَ المسيرةَ الباهرة, وتتنظمَ حلقاتُ تلك السلسلةِ المرصعةِ بالذهب.
لنا أن نتخيلَ: كيفَ كانت ستكونُ حياةُ محمدِ -صلى الله عليه وسلم- بدونِ خديجة؟، تلك الحنونُ التي دثَّرَتْهُ وزملَتْهُ وثبتَتْهُ, وظلتْ كلماتُها مشاعلَ لمسيرتِه وزاداً لدعوته: "كلَّا، أبْشِرْ؛ فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَوَاللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ".
وما أحمدُ بن حنبلٍ اليتيمُ بدونِ أمِّه التي كان يقولُ عنها: "كانت أمي تُلبسُني اللباس، وتُوقظُني، وتحمي ليَ الماءَ قبلَ صلاةِ الفجرِ, وأنا ابنُ عشرِ سنوات، ثم كانت تتخمَّرُ وتتغطَّى بحجابِها، وتذهبُ معي إلى المسجد؛ لأن المسجدَ بعيد، ولأن الطريقَ مظلمة".
وسفيانُ الثوريِّ, وما أدراك ما سفيان؟! يا تُرى هل كان سيكونُ أميرَ المؤمنين في الحديثِ بدونِ أمِّه التي كانت تقولُ له: "يا بُني! اطلبِ العلمَ, وأنا أكفيك بِمِغْزَلِي".
تلك هي السلسلةُ المباركةُ الطيبةُ, وأنتُنَّ من يُكملُ نظمَها ويُتِم خَرزَها, قوتُكنَّ في التمسكِ بالدين، واقتفاءِ سنةِ خيرِ المرسلين, اهتدينَ بالقرآنِ, واتصلنَ باللهِ, وتَزَيَنَّ بالتقوى, وتَمَسَّكْن بالحجابِ, وانشرنَ ذلكَ في من حولَكُن؛ الجيلُ في أعناقِكُن, ومِفتاحُ النصرِ بأيديكُن, وبوادرُ النهضةِ تصنعُ على أعينِكن.
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيبَ الأعراقِ
زكّى اللهُ قلوبَكن, ونورَ بالهدى طريقَكن, وجعلَ القرآنَ والسنةَ زادَكن, وأجرى الخيرَ والصلاحَ على أيديكُن.
اللهم كما جمعْتَنا في هذا المكان وقد ملأتِ الفرحةُ قلوبَنا؛ فأتمِمْ علينا فرحتَنا, واجمعنا نحن وأحبابَنا في جناتِك جناتِ النعيم.
اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم حول حزنَهم إلى سرور، وبلاءَهم إلى نعيم، وضعفَهم إلى قوةٍ وتمكينٍ يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي