والبخل درجات، وأشد درجاته أن يبخل الإنسان على نفسه مع حاجته، فكم من بخيل يُمسك المال ويَمْرض فلا يتداوى!، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل!، فكم بين مَنْ بَخِل على نفسه مع الحاجة، وبين مَن يُؤْثِر على نفسه مع الحاجة!، فالأخلاق عطايا يضعُها الله -عز وجل- حيث يشاء.
خلق الله الخلق، وفاوت بين خَلْقهم وخُلُقِهم، مع أن أصل خِلقتهم من تراب ومن أب واحد وهو آدم، فظهر التفاوت في جميع صنوف الحياة، فتراهم متفاوتين في إمساك المال أو بذله، ففيهم المُنفِق والمُمسِك، وفيهم الكريم والبخيل، فالباذل لماله في وجهه المشروعِ هو مِنْ أَحَبِّ الناس، وأما المُمْسك مالَه في الوجه المشروعِ أو الواجبِ فهو مِنْ أبغضِ الناس، ويزيد قبحُه إذا زاد ماله.
وقد ورد في كتاب الله ذمُّ مَنْ بَخِل بماله، قال -سبحانه-: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَّرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[آل عِمرَان: 180].
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من خمس فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن نرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر"(رواه البخاري).
بل إن المَلَكين يدعوان كلَّ صبيحةِ يوم لكل من أنفق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خَلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا"(متفق عليه).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "جميع بني آدم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامةُ ما يَمدحُ به الشعراءُ في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن"، وقال أيضًا: "ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بيّن -سبحانه- أن من تولى عن الجهاد بنفسه، أبدل الله به من يقوم بذلك، وكذلك في الإنفاق قال -تعالى-: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محَمَّد: 38]".
والبخل درجات، وأشد درجاته أن يبخل الإنسان على نفسه مع حاجته، فكم من بخيل يُمسك المال ويَمْرض فلا يتداوى!، ويشتهي الشهوة فيمنعه منها البخل!، فكم بين مَنْ بَخِل على نفسه مع الحاجة، وبين مَن يُؤْثِر على نفسه مع الحاجة!، فالأخلاق عطايا يضعُها الله -عز وجل- حيث يشاء.
والبخل نوعان: معنوي وحسي، فأما المعنوي فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البخيلُ الذي من ذُكِرْت عنده فلم يُصلّ عليَّ"(رواه الترمذي والنسائي).
وأما الحسي فهو ضربان: بُخْل الإنسان بمقتنياته، وبخل بمقتنيات غيره، وهو أكثرها ذمًا بدليل قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)[النِّسَاء: 37].
وقد كانت سيرةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- مفعمةً بالكرم والسخاء، منتفيًا عنها البخلُ والشح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من جملة ما ذكره للناس في حنينٍ يوم أَنْ قسم الغنائم: "لو كان لي عددُ هذه العضاه نَعَمًا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً، ولا كذوبًا، ولا جبانًا"(رواه البخاري).
"وكان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأجودُ ما يكون في رمضان"(متفق عليه)، وقد عُرفت سيرته -صلى الله عليه وسلم- حتى قبل البعثة، قالت خديجة -رضي الله عنها-: "والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق"(متفق عليه).
وتعوَّذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من البخل بقوله: "اللهم إني أعوذ بك من البخل"(رواه البخاري).
وهكذا ورثة الأنبياء -عليهم السلام- الدنيا في أعينهم حقيرة، فتراهم ضربوا أروع الأمثلة في البذل والإحسان، فهذا أبو بكرٍ يأتي بماله كلِّه في سبيل الله، وهذا عمُر يأتي بنصف ماله، وعثمانُ يُجَهز جيش العسرة -رضي الله عنهم-.
قال حُبيشُ بنُ مُبشر -رحمه الله-: "قعدت مع أحمدَ بنِ حنبلٍ ويحيى بنِ معينٍ -رحمهما الله- والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يَعرفون رجلاً صالحًا بخيلاً".
وفي تعديل الرجال وجرحهم قال أبو حنيفة -رحمه الله-: "لا أرى أن أُعدّل بخيلاً؛ لأن البخل لا يحمله على الاستقصاء، فيأخذ فوق حقّه خيفةً من أن يُغْبَن، فمن كان هكذا لا يكون مأمونَ الأمانة".
فاللهم إنا نعوذ بك من البخل والجبن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة للأمة كلِّها، فقد كان يَقْسِم الغنائم بين الناس، ثم بعد زمن يَرْبِط على بطنه الحجارة من شدة الجوع، فكان -صلى الله عليه وسلم- باذلاً للمعروف داعيًا له، مؤثرًا على نفسه مع الحاجة إليه.
والمحروم من حُرم الصدقةَ والإحسانَ للخلق، قال الضحاك -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ)[يس: 8]، قال: "البخلُ، أمسك الله أيديهم عن النفقة في سبيل الله، فهم لا يبصرون الهدى".
والمحروم أيضًا من حَرَمَ نَفْسَه صدقةً جارية، يوصِي بها من ماله بعد وفاته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا عَلَّمه ونَشَره، وولدًا صالحًا تَرَكه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته"(رواه ابن ماجه).
فطُرق الوقفِ متنوعةٌ بحسب قدرة الإنسان واستطاعته، وقد قام عثمان -رضي الله عنه- بتسبيل بئر رُومةَ، وحَبَسَ خالدُ بنُ الوليد -رضي الله عنه- أَدْرُعه وأعتادَه في سبيل الله.
فاجعل يدك للخير باذلة في حياتك وبما توصي به بعد مماتك، فهو عنوان الجود والبذل.
فاللهم إنا نسألك صلاح القول والعمل.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي