التوكل واليقين في الشدائد خير مُعِين

ماهر بن حمد المعيقلي
عناصر الخطبة
  1. أعظم الناس توكلا على الله الأنبياء والرسل .
  2. أمثلة للتوكل من حياة الرسل الكرام .
  3. بواعث التوكل النافعة .
  4. التوكل خير علاج لأمراض العصر النفسية والاجتماعية .
  5. بعض فوائد وثمرات التوكل على الله .
  6. ضوابط وآداب التوكل على الله تعالى .
  7. فضائل عشر ذي الحجة والتوصية باغتنامها .

اقتباس

فما أحوَجَ الأمةَ اليومَ، مع انتشار الأمراض العضوية، والنفسية والاجتماعية، ودواعي القلق والمخاوف، ما أحوَجَها إلى معرفة حقيقة التوكل على الله، وصدق الاعتماد عليه، في جَلْب المنفعة ودَفْع المضرة، في أمور الدنيا والآخرة، مع الأخذ بالأسباب المشروعة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله الذي بلطفه تنكشف الشدائد، وبالتوكل عليه يندفع كيدُ كل كائد، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأسأله المزيدَ من فضله وكرمه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له في كل شيء آية، تدل على أنه الواحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام كل عالِم وعابِد، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أهل المكارم والمحامد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد معاشر المؤمنين: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الزاد ليوم المعاد؛ (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)[هُودٍ: 103-15].

أمةَ الإسلامِ: أخرَج الإمامُ البخاريُّ في صحيحه: من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن إبراهيم -عليه السلام-، جَاءَ بِأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ، عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا. كلمةٌ عظيمةٌ، تُنبِئ عن توكُّل عظيم، إذا كان اللهُ أمرَكَ بهذا، فلن يضيِّعَنا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-، حَتَّى إِذَا كَانَ بمكانٍ لا يَرَونَهُ فيه، استقبَل بوجهِه البيتَ، ورفع يديه وقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إِبْرَاهِيمَ: 37]، وفي الحديث: "فجاء الْمَلَكُ إلى أُمِّ إسماعيلَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ الأرض، حَتَّى ظَهَرَت زمزمُ، فقال: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ؛ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ، يَبْنِيهِ هَذَا الغُلامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ".

معاشر المؤمنين: لقد مرت الشدائد والمحن، بأفضلِ البشرِ، من الأنبياء والمرسَلِينَ، فقابَلُوها بالتوكل واليقين، والثبات على الحق المبين، فالأنبياء والرسل، هم أعظم الناس توكُّلًا على الله؛ لعِلمِهِم بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويقينِهم وثقتِهم به، فقالوا لأقوامهم: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[إِبْرَاهِيمَ: 12]، فكانت العاقبة لهم، والندامة والخسارة لأعدائهم.

وهذا إمام المتوكلين، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان المثَلَ الأعلى في التوكلِّ على ربِّه، وتفويضِ الأمرِ إليه، في جميع شؤونه وأحواله، ممتثِلًا لقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 58]، وكان يقول في دعائه: "اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ"(رواه البخاري ومسلم)، وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد، عن جابر -رضي الله عنه- قال: "نَزَلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌تَحْتَ ‌سَمُرَةٍ ‌وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجواب المتوكل على ربه فقلتُ: اللَّهُ، ثم قال في الثانية: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: قلتُ: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من يمنعك مني؟ قال: كن كخير آخذ، قال: أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فعفا عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلى سبيله. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "‌والتوكل ‌من ‌أقوى ‌الأسباب التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيق، من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبُه؛ أي: كافيه، ومَنْ كان اللهُ كافِيَهُ وواقيَه فلا مطمعَ فيه لعدوه ولا يضره إلا أذًى لا بد منه؛ كالحَرِّ والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضرَّه بما يبلغ منه مرادَه فلا يكون أبدًا".

إخوة الإيمان: إنَّ ممَّا يبعث التوكلَ في قلب العبد، معرفةَ الله بأسمائه وصفاته، فمَنْ كان بالله وصفاته أعلمَ، كان توكُّله عليه أكملَ، فمن أسماء الله -تعالى- الحسنى "الوكيل"؛ الذي جميعُ المخلوقاتِ تحتَ وكالتِه وتدبيرِه، وهو جلَّ جلالُه وتقدست أسماؤه، الكفيل بأرزاقهم، القائم بما يُصلِحُهم، فلَه وحدَه الخلقُ والأمرُ، فكفى به وليًّا لمن أناب إليه، وناصرًا ومعينًا لمن توكَّل عليه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد؛ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)[الْمُزَّمِّلِ: 9]، (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[الْأَنْعَامِ: 102].

فما أحوَجَ الأمةَ اليومَ، مع انتشار الأمراض العضوية، والنفسية والاجتماعية، ودواعي القلق والمخاوف، ما أحوَجَها إلى معرفة حقيقة التوكل على الله، وصدق الاعتماد عليه، في جَلْب المنفعة ودَفْع المضرة، في أمور الدنيا والآخرة، مع الأخذ بالأسباب المشروعة، فالتوكُّل من أعظم العبادات، وأجلِّ القرباتِ، وهو أعلى مقامات التوحيد وأجَلِّها، وأشرف الطاعات وأعظمها، والدِّينُ قسمانِ: اســتعانةٌ وعبـادةٌ؛ فالتوكـل هـو الاسـتعانة، والإنابـة هـي العبـادة، وذلك في قول الرب -تبارك وتعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الْفَاتِحَةِ: 5]، بل لا يقوم الدِّين إلا على التوكل؛ فمنزلةُ التوكلِّ من الدِّين، كمنزلة الجسد من الرأْسِ، فكما لا يقوم الرأْسُ إلا على الجسد، فكذلك لا يقوم الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ إلا على التوكل، (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هُودٍ: 123].

والخير الكثير، والرزق الوفير إنما يأتي بالتوكل على الكريم الخبير؛ ففي مسند الإمام أحمد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌لَوْ ‌أَنَّكُمْ ‌تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا"، وكيف يخاف العبد من فوات الرزق، والخالق -جل جلاله- وكيله، وهو القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[فَاطِرٍ: 3]، فمن تعرف على الله لم يلذ بغيره، ولا يركن إلى سواه، ومن آوى إلى الوكيل فقد آوى إلى ركن شديد.

أمة الإسلام: إن التوكل على الله، يُــورِث الرضــا بالقضــاء والقَدَر، فمَنْ توكَّــل على الله حــقَّ توكــله، رضــي بأقداره، ونال رضاه ومحبته، وبوَّأه جنتَه؛ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النَّحْلِ: 41-42]، بل المتوكلون يدخلون الجنةَ بغير حساب، ففي الصحيحين، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ".

فمن اتخذ الله وكيلًا، اطمأنَّ قلبُه، وسكنت نفسُه، وقرَّت عينُه، وصَلَحَ بالُه؛ لعلمه أن الأمر كله بيد الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وفي سنن الترمذي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ".

فيا عبد الله: توكَّل على ربك يَكْفِكَ، واعلم أن ما أصابكَ لم يكن ليخطئكَ، وأن ما أخطأكَ لم يكن ليصيبكَ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الْأَنْفَالِ: 2-4].

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفورًا رحميًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، حي لا يموت، وقيوم لا ينام، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوكل عليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد معاشر المؤمنين: إنَّ تحقيق التوكل على الله، لا ينافي العملَ والأخذَ بالأسباب المشروعة، مع عدم الاعتماد عليها، فَمَنْ ترَك الأسبابَ المأمورَ بها، فهو عاجزٌ مفـرِّطٌ مـذمومٌ، والمتوكِّلون في كتاب الله هم العاملون؛ ففي صحيح البخاري، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ، سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، والأنبياء -عليهم السلام-، مع أعظم الناس توكُّلًا على ربهم، كانوا يأخذون بالأسباب، فنوحٌ -عليه السلام-، صنَع السفينةَ، وأحسَن التدبيرَ يوسف -عليه السلام- لإنقاذ مصر من المجاعة، وضرَب موسى -عليه السلام- البحرَ بعصاه، وكان إمامُ المتوكلين -عليه الصلاة والسلام-، يباشِر الأسبابَ، ويأمُر بفعلها ومباشَرتها، فتداوى وأمَر بالتداوي، وأمَر بإطفاء النار عند المبيت، وقَالَ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟"(كما في سنن أبي داود)، وفي حادثة الهجرة، أخَذ -صلى الله عليه وسلم- بالأسباب الممكِنة؛ فهيَّأ مَنْ يبيت على فراشه، ومَنْ يرافقه في رحلته، والغارَ الذي يختبئ فيه، ووقَف كفارُ قريش على باب الغار، فقال أَبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يا رسولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا"(رواه البخاري). (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 40].

ثم اعلموا معاشر المؤمنين أن من فضل الله -تعالى- على هذه الأمة، أَنْ جعَل لها مواسمَ للطاعة، وإنَّ من هذه المواسم الفاضلة، عشر ذي الحجة، ففي صحيح البخاري، أن -النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ، قَالُوا: وَلا الجِهَادُ؟ قَالَ: وَلا الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ"، فالعاقل مَنِ اغتَنَمَها، وتعرَّض لنفحاتها، بكثرة الطاعات، والباقيات الصالحات، وفي مسنَد الإمام أحمد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ، مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ"، فيُستَحَبُّ في هذه الأيام، رفعُ الصوت بالتكبير، في الطرقات والمساكن ، والأسواق والمساجد، ففي صحيح الإمام البخاري: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنهما- يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا".

ومن الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة، عبادة الأضحية، وهي سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ، لا ينبغي تركُها لمن قدَر عليها، وعلى من أراد أن يُضَحّي، أن يُمسِكَ عن شعره وأظفاره، من رؤية هلال شهر ذي الحجة، حتى يذبَح أضحيتَه؛ لِمَا روى مسلمٌ في صحيحه، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ".

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعلنا ممن دعاك فأجبته، واستهداك فهديته، واستجار بك فأجرته، وتوكل عليك فكفيته، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم إنا نسألك بفضلك ومنتك، وجودك وكرمك، أن تحفظنا من كل سوء ومكروه، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعفين منا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيومُ، وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجزِه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده الأمين لِمَا فيه خيرٌ للإسلام والمسلمين، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه.

اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، عاجِلًا غيرَ آجِل، برحمتك وفضلك وجودك يا رب العالمين.

لا إله إلا أنت سبحانك، إنَّا كنَّا من الظالمينَ؛ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي