بِالصِّدْقِ: تَمَيَّزَ أَهْلُ الإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ؛ فَالإِيمَانُ: أَسَاسُهُ الصِّدقُ. والنِّفَاقُ: أَسَاسُهُ الكَذِبُ؛ قالَ تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
بَعدُ، فَأُوصِيكُم -أَيُّها الناسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (وَاتَّقُوا يَومًا لا تَجزِي نَفسٌ عَن نَفسٍ شَيئًا وَلا يُقبَلُ مِنهَا عَدلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُم يُنصَرُونَ)[البقرة:123].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: المَشَارِيعُ أَوِ المَشرُوعَاتُ، كَلِمَةٌ تَتَرَدَّدُ في عَالَمِ النَّاسِ اليَومَ كَثِيرًا، وَتَمُرُّ بِأَعيُنِهِم وَأَسمَاعِهِم في وَسَائِلِ الإِعلامِ وَالتَّواصُلِ؛ فَتَهَشُّ لَهَا النُّفُوسُ وَتَشتَاقُ إِلَيهَا القُلُوبُ، أَمَلاً في نَيلِ حَظٍّ مِن حُظُوظِ الدُّنيَا العَاجِلَةِ، وَطَمَعًا في تَحصِيلِ شَيءٍ مِن مَكَاسِبِهَا الزَّائِلةِ.
وَالحَقَّ أَنَّهُ لا ضَيرَ أَن يَسعَى الإِنسَانُ لأَخذِ نَصِيبِهِ مِن الدُّنيَا وَنَيلِ حَظِّهِ مِن مَتَاعِهَا الَّذي لا يَقُومُ العَيشُ إِلاَّ بِهِ، وَفي مُحكَمِ التَّنزِيلِ: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيَا)[القصص:77]، وَفي الحَدِيثِ عِندَ أَحمَدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ: "نِعمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ".
نَعَمْ، نِعمَ المَالُ الحَلالُ الَّذِي يُعِفُّ بِهِ الرَّجُلُ نَفسَهُ، وَيَحفَظُ بِهِ مَاءَ وَجهِهِ وَيُصلِحُ آخِرَتَهُ، غَيرَ أَنَّ التَّوَسُّطَ في ذَلِكَ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَمَطلُوبٌ، وَالإِفرَاطَ فِيهِ يَخرُجُ بِصَاحِبِهِ عَنِ الحَدِّ المَشرُوعِ إِلى دَائِرَةِ المَذمُومِ، وَهَذَا مَا حَدَثَ مَعَ طُغيَانِ الحَيَاةِ المَادِّيَّةِ في السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ، الَّتي عَظُمَ فِيهَا التَّعَلُّقُ بِمَشرُوعَاتِ الدُّنيَا وَالاهتِمَامُ بِهَا، وَالفَرَحُ بِنَجَاحِهَا وَالحُزنُ عَلَى إِخفَاقِهَا، حَتى زَادَ عَن حَدِّهِ المَقبُولِ، وَأَغفَلَ القُلُوبَ وَأَذهَلَ العُقُولَ، وَصَرَفَ الأَفئِدَةَ عَنِ المَشرُوعِ الحَقِيقِيِّ العَظِيمِ، الَّذِي مِن أَجلِهِ خُلِقَ الخَلقُ وَأُوجِدُوا، وَبِنَجَاحِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم فِيهِ تَكُونُ سَعَادَتُهُ الأَبَدِيَّةُ وَفَوزُهُ العَظِيمُ، وَبِإِخفَاقِهِ فِيهِ يَكُونُ شَقَاؤُهُ الدَّائِمُ وَخُسرَانُهُ المُبِينُ (فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهَ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون:101-103].
أَجَل -يَا عِبَادَ اللهِ-؛ إِنَّ أَعظَمَ مَشرُوعٍ لِلإِنسَانِ في هَذِهِ الحَيَاةِ هُوَ عِبَادَتُهُ لِرَبِّهِ، الَّتي مِن أَجلِهَا خُلِقَ وَأُوجِدَ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ)[الذاريات:56].
إِنَّ عَلَى المَرءِ أَن يَستَحضِرَ في ذِهنِهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَيَجعَلَ نُصبَ عَينَيهِ في كُلِّ حِينٍ، أَن مَطلَبَهُ الأَعلَى وَمُبتَغَاهُ الأَسمَى، وَمَشرُوعَهُ الَّذِي يَجِبُ أَلاَّ تَهنَأَ نَفسُهُ بِنَجَاحٍ في سِوَاهُ مِن مَشرُوعَاتِ الدُّنيَا وَهُوَ مُقَصِّرٌ فِيهِ أَو غَافِلٌ عَنهُ، هُوَ نَجَاةُ نَفسِهِ مِنَ النَّارِ وَفَوزُهُ بِالجَنَّةِ دَارِ القَرَارِ، فَخُذُوهَا -أَيُّهَا العُقَلاءُ- وَعُوهَا، وَإِذَا حَدَّثُوكُم عَنِ المَشَارِيعِ العَاجِلَةِ، فَحَدِّثُوهُم عَن أَعظَمِ مَشرُوعٍ لِكُلِّ إِنسَانٍ، المَشرُوعِ الَّذِي تَقصُرُ أَمَامَهُ كُلُّ مَشَارِيعِ الدُّنيَا وَتَصغُرُ، وَتَتَضَاءَلُ حَتى يَغدُوَ كَثِيرُهَا قَلِيلاً وَعَظِيمُهَا حَقِيرًا، قَالَ -تَعَالى-: (إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا كَمَاءٍ أَنزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضِ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ وَالأَنعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخُرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلاً أَو نهَارًا فَجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لم تَغنَ بالأَمسِ كَذَلِك نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24]، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "وَاللهِ مَا الدُّنيَا في الآخِرَةِ إِلاَّ مَثَلُ مَا يَجعَلُ أَحَدُكُم أَصبُعَهُ في اليَمِّ فَلْيَنظُرْ بِمَ يَرجِعُ"(رَوَاهُ مُسلِمٌ).
وَقَد تَعَدَّدَت في كِتَابِ اللهِ الآيَاتُ الَّتي تُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ مَشرُوعَ نَجَاةِ الإِنسَانِ مَشرُوعٌ ذَاتِيٌّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ بِنَفسِهِ لا بِغَيرِهِ، قَالَ -تَعَالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة:110]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (إنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم)[الإسراء:7]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَنِ اهتَدَى فَإِنَّمَا يَهتَدِي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِوَكِيلٍ)[يونس:108]، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (قَد جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَبِّكُم فَمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِهِ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ)[الأنعام:104]، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشكُرُ لِنَفسِهِ)[النمل:40]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ)[العنكبوت:6]، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ)[فاطر: 18]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ)[فصلت: 46].
إِنَّهَا لآيَاتٌ وَاضِحَةٌ، ظَاهِرَةُ الدِّلالَةِ نَاصِعَةُ البَيَانِ، لا تَدَعُ لِلنَّاسِ عُذرًا في تَكَاسُلٍ وَتَوَاكُلٍ أَو تَسوِيفٍ وَتَأجِيلٍ، أَو حَاجَةٍ إِلى مَن يُمسِكُ بِأَيدِيهِم وَهُم عَلَى عِلمٍ بِمَا يُنجِيهِم، أَوِ اشتِغَالٍ بِصَغَائِرِ الهُمُومِ وَدَنِيءِ الأَهدَافِ، وَهُم يَرَونَ العُقَلاءَ مِن حَولِهِم مَشغُولِينَ بِالمَعَالي، يُنَوِّعُونَ العِبَادَاتِ وَيُسَارِعُونَ إِلى الطَّاعَاتِ، وَيَتسَابَقُونَ في الخَيرَاتِ وَيَحرِصُونَ عَلَى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، صَلاةً وَجِهَادًا، وَتَزكِيَةً لأَنفُسِهِم وَإِصلاحًا، وَصَدَقَةً وَبَذلاً، وَعَطَاءً وَإِحسَانًا، وَذِكرًا للهِ وَشُكرًا، وَقِرَاءَةً لِلقُرآنِ وَدُعَاءً.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْيَنتَبِهْ كُلُّ امرئٍ لِنَفسِهِ، وَلا يُقَلِّدَنَّ دِينَهُ غَيرَهُ، وَلا تَأخُذَنَّ بِهِ حَالُ زَمَنِهِ إِقبَالاً وَإِدبَارًا؛ فَإِنَّهُ لَيسَ في كُلِّ حِينٍ سَيَجِدُ مَن يَأخُذُ بِيَدِهِ لِلحَقِّ وَيُذَكِّرُهُ بِهِ وَيُثَبِّتُهُ عَلَيهِ، وَالنَّاسُ يُحسِنُونَ وَيُسِيئُونَ، وَيُقبِلُونَ وَيُدبِرُونَ، وَيَزدَادُ إِيمَانُهُم وَيَنقُصُ، وَالمُجتَمَعَاتُ تَقوَى استِقَامَتُهَا عَلَى الدِّينِ حِينًا وَتَضعُفُ حِينًا، وَيَلتَزِمُونَ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ في وَقتٍ وَيَنحَرِفُونَ عَنهُ في أَوقاتٍ أُخرَى، لَكِنَّ الحَقَّ يَبقَى هُوَ الحَقَّ وَإِن قَلَّ أَتبَاعُهُ، وَالبَاطِلَ يَبقَى بَاطِلاً وَإِن كَثُرَ أَشيَاعُهُ.
وَإِذَا كَانَ الأَمرُ في مَشرُوعَاتِ الدُّنيَا عَلَى السَّعَةِ، وَمَا فَاتَ مِنهَا يُمكِنُ إِدرَاكُهُ لاحِقًا وَتَعوِيضُهُ فِيمَا بَعدُ؛ فَإِنَّ مَشرُوعَاتِ الآخِرَةِ بَينَ أَركَانٍ وَوَاجِبَاتٍ يَومِيَّةٍ، لا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ بِحَالٍ تَركُهَا وَلا التَّهَاوُنُ بِهَا؛ كَالصَّلَوَاتِ الخَمسِ وَغَضِّ البَصَرِ وَحِفظِ الفَرجِ، وَصِيَانَةِ العِرضِ وَسَترِ العَورَةِ، وَبِرِّ الوَالِدَينِ وَوِقَايَةِ النَّفسِ وَالأَهلِ مِنَ النَّارِ، وَتَربِيَتِهِم عَلَى العُبُودِيَّةِ للهِ وَالخَوفِ مِنهُ وَتَحقِيقِ رِضوَانِهِ، وَبَينَ سُنَنٍ وَمُستَحَبَّاتٍ تَرفَعُ صَاحِبَهَا في الجَنَّةِ دَرَجَاتٍ، وَتُبنَى لَهُ بِهَا القُصُورُ العَالِيَاتِ؛ كَأَدَاءِ الرَّوَاتِبِ قَبلَ الصَّلواتِ وَبَعدَهَا، وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالإِكثَارِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَإِدَامَةِ الذِّكرِ وَقِرَاءَةِ القُرآنِ، وَحُسنِ الخُلُقِ وَالإِحسَانِ إِلى النَّاسِ، وَالإِكثَارِ مِن صُنعِ المَعرُوفِ وَبَذلِ النَّدَى.
وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الفِتَنُ وَقَوِيَ شَأنُ المُضِلِّينَ، وَخَفِيَ العِلمُ وَخَفَتَ صَوتُ النَّاصِحِينَ، عَظُمَت مَسؤُولِيَّةُ كُلُّ فِردٍ عَن نَفسِهِ، وَضُوعِفَ لَهُ الأَجرُ عَلَى صَبرِهِ وَاستِقَامَتِهِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِلَيَّ"(رَوَاهُ مُسلِمٌ)، وَالمُرَادُ بِالهَرجِ هُوَ الفِتنَةُ وَاختِلاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وَسَبَبُ كَثرَةِ فَضلِ العِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ يَغفُلُونَ عَنهَا وَيَشتَغِلُونَ عَنهَا، وَلا يَتَفَرَّغُ لَهَا إِلاَّ الأَفرَادُ المُتَيَقِّظُونَ، الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِم عَمَّا يَشغَلُهُم وَيَصُدُّهُم عَنهُ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ)[الأحقاف:13-14].
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَخُذُوا بِأَسبَابِ نَجَاتِكُم فَإِنَّ أَجسَادَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)[الحشر: 18].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ نَجَاةَ المَرءِ في آخِرَتِهِ، مَشرُوعٌ ذَاتِيٌّ يَخُصُّهُ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَحدَهُ، وَهُوَ مَسؤُولٌ فِيهِ عَن نَفسِهِ، وَيَجِبُ أَن تَتَوَقَّدَ بِهِ رُوحُهُ في كُلِّ غَدوَةٍ وَرَوحَةٍ، وَأَن يَفُورَ بِهِ جَأشُهُ مَعَ كُلِّ زَفرَةِ نَفَسٍ، وَيَتَحَرَّكَ بِهِ قَلبُهُ مَعَ كُلِّ خَفقَةِ دَمٍ، وَأَلاَّ يَحتَاجَ إِلى مَن يَسحَبُهُ إِلى الطَّاعَةِ سَحبًا أَو يَغصِبُهُ عَلَى الخَيرِ غَصبًا، مُؤلِمٌ أَن يَعلَمَ الفَتَى أَنَّ الصَّلاةَ مِن أَعظَمِ أَركَانِ الإِسلامِ وَشَعائِرِ الإِيمَانِ، ثم يَغُطَّ في نَومِهِ وَيَعتَمِدَ عَلَى وَالِدِهِ في كُلِّ وَقتٍ لِتَنبِيهِهِ، ثُمَّ إِذَا أَمَرَهُ وَالِدُهُ لم يَمتَثِلْ مُبَاشَرَةً وَلم يُبَادِرْ بِالنُّهُوضِ، وَمُوجِعٌ أَن يَحتَاجُ الابنُ إِلى أَن يُذَكِّرَهُ أبُوهُ أَو أُمُّهُ بِالبِرِّ بِهِمَا وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّ حَقَّهُمَا مِن أَعظَمِ الحُقُوقِ بَعدَ حَقِّ اللهِ، وَمُؤسِفٌ أَن يُمسِكَ صَاحِبُ المَالِ مَالَهُ وَيَكنِزَهُ، وَلا يَبحَثَ عَن مَصَارِفِ الخَيرِ الَّتي يُقَدِّمُ فِيهَا لِنَفسِهِ، حَتى يَأتِيَهُ القَائِمُونَ عَلَى مُؤَسَّسَاتِ الخَيرِ وَيَسأَلُونَهُ وَكَأَنَّهُم يَستَجدُونَهُ، فَإِذَا ذَكَّرُوهُ تَبَاطَأَ وَتَلَفَّتَ وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللهُ وَفَكَّرَ وَقَدَّرَ.
وَغَرِيبٌ أَلاَّ يُؤتيَ المَرءُ الآخَرِينَ حُقُوقَهُم مِن تِلقَاءِ نَفسِهِ، وَيَظَلَّ يُمَاطِلُ بِهَا وَيَمنَعُهُم إِيَّاهَا، حَتى يُلزَمَ بِهَا بِحُكمٍ مِن قَاضٍ أَو بِأَمرٍ مِن مَسؤُولٍ رَغمًا عَن أَنفِهِ.
لِمَاذَا يَسمَعُ النَّاسُ فَتَاوَى العُلَمَاءِ وَيَقرَؤُونَهَا في كَثِيرٍ مِنَ الأَحكَامِ، ثم لا يَترُكُوا المُحَرَّمَ وَلا يَأتُوا بِالوَاجِبِ؟! لِمَاذَا تُعرَضُ عَلَيهِمُ المَوَاعِظُ فَلا يَتَأَثَّرُوا بِهَا وَكَأَنَّهَا عَلَى غَيرِهِم أُلقِيَت؟!
لِمَاذَا يَقتَدِي المُسلِمُ حِينًا مِنَ الدَّهرِ بِأَهلِ العِلمِ وَالفِقهِ وَالصَّلاحِ، الَّذِينَ يَخَافُونَ اللهَ وَيَتَّقُونَهُ، ثُمَّ لا يَلبَثُ أَن يَترُكَ مَا كَانَ عَلَيهِ مِنَ الحَقِّ وَالهُدَى، وَيَتَرَاجَعَ وَيَنكُصَ عَلَى عَقِبَيهِ، أَخذًا بِرَأيٍ شَيطَانِيٍّ جَاءَهُ بِهِ نَاعِقٌ مُنَافِقٌ، أَو قَادَهُ إِلَيهِ صَدِيقٌ جَاهِلٌ، أَو مَالَت بِهِ إِلَيهِ نَفسٌ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؟!
لِمَاذَا وَلِمَاذَا وَلِمَاذَا؟! أَسئِلَةٌ يَجِبُ أَن يَطرَحَهَا كُلُّ مُسلِمٍ عَلَى نَفسِهِ كُلَّ حِينٍ، لِيَهتَمَّ بِمَشرُوعِهِ الأُخرَوِيِّ بِنَفسِهِ وَيَرعَاهُ وَيُنَمِّيَهُ، قَبلَ أَن يَهجُمَ عَلَيهِ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَيَفجَأَهُ مُبَدِّدُ الآمَالِ وَقَاطِعُ الرَّغَبَاتِ (فَيَقُولَ رَبِّ لَولا أَخَّرتَني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ)[المنافقون:11].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي