ولما كان اليوم الثالث أقيمت المناظرة وانتصر عليهم كالعادة, فخلا به المعتصم وقال له: "ويحك يا أحمد! أجبني حتى أطلق عنك بيدي", فرد عليه بنحو رده وهو قوله: "أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله فأقول به", فأمر بالسياط والجلادين...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أمَّا بَعْدُ: كان الناس أمة واحدة, يستمدون دينهم من كلام الله ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفهم الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-, وعلى هذا كان الجميع حتى استشهد عمر -رضي الله عنه-؛ فانكسر الباب وظهرت الفتنة, وبدأت الكلمة تتفرق والبدع تنشأ, فظهرت الخوارج ثم ظهر الروافض والنواصب, ثم ظهرت القدرية, ثم ظهرت الجهمية والمجسمة, فنشأت تلك المقالات المبتدعة التي خرجت عن نصوص القرآن والسنة, وتمردت على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
ولكن مع ذلك كان أهل البدع خلال قرنين من الزمان مقموعين مقهورين, وكانت الغلبة للسنة وأهلها؛ فيحدث بها العلماء, وينصرها الخلفاء, وكان أهل البدع هم الشواذ المنبوذين من الخاصة والعامة, فهذا الجعد بن درهم أول من اخترع مقالة خلق القرآن يقتله خالد القسري والي الكوفة في عيد الأضحى, ويقول: "أيها الناس! ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما", ثم نزل فذبحه في أصل المنبر.
وقتل الجهم بن صفوان رأس الجهمية على يد أمير خراسان سلم بن أحوذ, ومكث بشر المريسي رأس المعتزلة متخفيا في زمن هارون الرشيد حين هدده بالقتل إن أظفره الله به.
وهكذا مكث أهل البدع على هذا الحال حتى جاء الخليفة المأمون الذي تعلم على يد أبي الهذيل بن العلاف أحد رؤوس المعتزلة؛ فصار المأمون منهم, وأظهر القول بخلق القرآن, ذلك القول المحدث الذي ما جاء به القرآن ولا علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ولا أثر عن أحد منهم القول به, فكانت تلك المحدثة, و"إن شر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار"؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان ذلك في عام 212هـ, فأظهر المأمون تلك المقالة ولكنه لم يمتحن الناس ويجبرهم عليها, وإنما كان يقيم المناظرات ويدعو إليها, وكان العلماء ينكرونها أشد الإنكار، ويبينون للناس ضلالة تلك المقالة وبدعيتها, وبعد ست سنين في عام 218هـ بدأ المأمون يدعو الناس بقوة السلطان؛ بتحريض من رأس الفتنة أحمد بن أبي دؤاد.
وكان المأمون في طرطوس على الثغور قد خرج إلى الجهاد, فأرسل إلى نائبه في بغداد إسحاق بن إبراهيم كتابا جاء فيه: "فاجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليك, فابدأ بامتحانهم فيما يقولون, وتكشيفهم عما يقولون في خلق القرآن".
فجمع إسحاق بن إبراهيم العلماء وامتحنهم, فبدأوا يجيبون واحدا تلو الآخر, وكان الإمام أحمد بن حنبل في ذلك المجلس, فيحكي حاله أبو معمر القطيعي إذ يقول: "لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة, وكان أحمد بن حنبل قد أحضر, فلما رأى الناس يجيبون, وكان رجلا لينا, فانتفخت أوداجه, واحمرت عيناه, وذهب ذلك اللين, فقلت: إنه قد غضب لله".
وتحت الإكراه والتهديد أجاب كل من أحضر من العلماء عدا أربعة؛ أحمد بن حنبل, ومحمد بن نوح, والحسن بن صالح, والقواريري, ثم أجاب الحسن والقواريري، وثبت الإمام أحمد ومحمد بن نوح -رحمهم الله جميعا-, فوجهوا إلى الحبس, وأمر المأمون بإحضارهم إليه في طرطوس.
وفي تلك الأثناء كان بعض الناس يذاكر الإمام أحمد في التقية والترخيص للمكره, فكان يقول لهم: "كيف تصنعون بحديث خباب: "إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار, لا يصده ذلك عن دينه"؟؛ فيئسوا منه.
وقدم إليه مثبِّتون له كذلك, فيقول الإمام أحمد محدثا عن نفسه: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي, كلمني بها في رحبة طوق, قال: "يا أحمد! إن يقتلك الحق؛ مت شهيدا, وإن عشت؛ عشت حميدا" قال: فقوى قلبي.
وكان من أعظم المثبتين له رفيقه محمد بن نوح الذي يقول عنه الإمام أحمد: "ما رأيت أحدا على حداثة سنه, وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح, إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير, قال لي ذات يوم: "يا أبا عبد الله! الله الله, إنك لست مثلي؛ أنت رجل يقتدى بك, قد مد الخلق أعناقهم إليك, لما يكون منك, فاتق الله واثبت لأمر الله".
ساروا إلى الخليفة، وفي الطريق مات محمد بن نوح, وبقي الإمام أحمد وحده ثابتا, وكان -رحمه الله- يدعو الله أن لا يجمع بينه وبين المأمون, فاستجاب الله دعوته, فجاء خبر وفاة المأمون وهو في الطريق, فرجع الإمام أحمد إلى الحبس في بغداد, وقد بويع للمعتصم بالخلافة.
وكان المأمون قد أوصى المعتصم بالسير على طريقه في حمل الناس على خلق القرآن, وكان في وصيته: "يا أبا إسحاق! ادن مني واتعظ بما ترى, وخذ بسير أخيك في خلق القرآن", فأبقاه المعتصم في الحبس, فظهر صوت الباطل وخفت صوت الحق, فكان المبتدعة هم رؤوس الناس, وما كان يجرؤ على مخالفتهم أحد.
بقي الإمام أحمد في الحبس ثمانية وعشرين شهرا، وبعد هذه المدة الطويلة أرسل إليه المعتصم؛ ليحضر مجلس الخليفة, وكان في المجلس رؤوس الفتنة والبدعة أحمد بن أبي دؤاد وغيره, فأمر الخليفة بالمناظرة, وكان الإمام أحمد وحده قد أنهكه الحبس والتعب, ولكن ما كان يقويه هو الحق الذي ثبته الله عليه, فثبت في المناظرة وغلب أهل البدعة بحجته, وظلت تلك المناظرة ثلاثة أيام تباعا, وكان المعتصم يشفق عليه ويقول له: "لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي, ما عرضت لك", وكان الإمام أحمد في المناظرة إذا هدد أو خوف يجيب يقول: "أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله فأقول به".
ولما كان اليوم الثالث أقيمت المناظرة وانتصر عليهم كالعادة, فخلا به المعتصم وقال له: "ويحك يا أحمد! أجبني حتى أطلق عنك بيدي", فرد عليه بنحو رده وهو قوله: "أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله فأقول به", فأمر بالسياط والجلادين, فألان له المعتصم ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وحرضه عليه, فضرب وجلد -رحمه الله-, وجعل بعضهم يقول له: "ويلك! إمامك على رأسك قائم", وقال بعضهم: "يا أمير المؤمنين! دمه في عنقي, اقتله", وجعلوا يقولون: "يا أمير المؤمنين! أنت صائم, وأنت في الشمس قائم", فيقول له المعتصم: "ويحك يا أحمد! ما تقول؟", فأقول: "أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به", فيأمر المعتصم الجلاد بالاستمرار في الضرب حتى غشي عليه, يقول الإمام واصفا ذلك الحال: "فذهب عقلي, ثم أفقت بعد, فإذا الأقياد قد أطلقت عني", فقال لي رجل ممن حضر: "كببناك على وجهك, وطرحنا على ظهرك ودسناك".
ثم أشفق عليه المعتصم فأمر بإطلاقه, ودعا عمه وسلمه له وأخرج من السجن -رحمه الله-, وكان الإمام أحمد يذكر المعتصم بخير مع كل ما بدر منه, فكان يقول: "ما كان في القوم أرأف بي من المعتصم", وكان يقول: "قد جعلت أبا إسحق -يعني المعتصم- في حل".
وعاش الإمام طليقاً بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعة، يباشر التدريس والفتوى والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين دأباً, حتى مات المعتصم سنة 227هـ.
بويع الواثق بعد المعتصم بالخلافة, ولم يتعرض الواثق للإمام أحمد, حتى شكا بعض الناس إلى الإمام أحمد أن ابن أبي دؤاد يأمر معلمي الصبيان بتعليمهم القول بخلق القرآن في الكتاتيب, فمنعهم الإمام أحمد وأنكر عليهم ذلك, فأخبر الواثق بذلك, وعلم الإمام أحمد أن الواثق قد ذكره, فاختفى الإمام طوال ما بقي من إمارة الواثق حتى مات الواثق سنة 232هـ.
ثم بويع المتوكل بالخلافة, وكان ناصرا للسنة محبا للإمام أحمد, ففرج الله عن الأمة, وكشف الغمة, وظهرت السنة, وعلا صوت الحق, وانخنس صوت الباطل, وقمعت البدعة وأهلها وصاروا إلى شر وبال.
وصادر المتوكل أموال أحمد بن أبي دؤاد, فأخذ منه ستة عشر ألف ألف درهم -ستة عشر مليون درهم-, فافتقر ثم ابتلاه الله بالفالج -وهو الشلل- أربع سنين ثم مات بعد ذلك بهمه وغمه, ومات معه باطله.
وأما الإمام أحمد فعاش بقية حياته عزيزا حميدا, وأقرت له الأمة كلها بالإمامة والفضل, قال علي بن المديني -رحمه الله-: "إن الله أيَّد هذا الدين بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
وبقي كذلك حتى مات -رحمه الله- وكانت جنازته حدثا عظيما في التاريخ, فحضرها ألف ألف -مليون- رجل, وستون ألف امرأة.
فرحم الله ذلك الإمام, وأسكنه الله الفردوس الأعلى من جنته, وجمعنا به على سرر متقابلين مع حبيبنا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
في خضم سطوة الباطل وظهور البدعة, كان الناس يأتون العلماء يشكون لهم قوة الباطل وضعف الحق, فما كان من أهل العلم إلا أن ينطقوا بالفأل ويبشروا بالنصر والتمكين إن ثبتوا على الحق المبين, فجاء بعض الناس لسحنون المالكي وقالوا له: "البدعة فاشية، وأهلها أعزاء؟", فقال: "أما علمت أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهرها".
وقد صدق -رحمه الله-؛ فقد قطع الله تلك البدعة بثبات الإمام أحمد على الحق, وتثبيت كثير من الناس له.
وجاء بعضهم إلى الإمام أحمد فقالوا له: "يا أبا عبد الله! أوَلا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟!" قال: "كلا؛ إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق".
فما دامت القلوب على الحق, تقر أن الحق حق وأن الباطل باطل, فليس للباطل حينها ظهور, وإن كان يتظاهر بالقوة والسطوة, ولا بد لقوة الحق أن تعلو ولو بعد حين؛ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)[الأنبياء: 18].
لقد عاش الإمام أحمد مستضعفا محبوسا أو متخفيا سنين عديدة، وربما أصاب بعض الناس في تلك السنين اليأس والإحباط, لكن الحق قال كلمته وكانت العاقبة للمتقين, فأظهره الله على أعدائه, وما كان معه جند ولا مال إلا ما آتاه الله من قوة الحق الذي جهر به وثبت عليه, وصار هو إمام أهل السنة والجماعة في زمانه, الكل يدين له بالفضل والعلم والإمامة من الخليفة إلى أصغر أهل الإسلام, ثم مات -رحمه الله- وما ماتت ذكراه, وما مات علمه, وما ماتت سيرته وآثاره, وبقي إماما متبعا محبوبا في قلوب المسلمين كلهم, وها نحن إلى اليوم نعتبر بسيرته, ونستلهم من دروس حياته, ونستفيد من علمه بعد اثني عشر قرنا من الزمان؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي