هؤلاء هم أحب الناس إلى الله، أولئك الذين يتفننون في نفع الناس وجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم؛ يتفننون في إسعادهم، يسعون بكل شيء لكشف كروبهم، يضحون بما عندهم لقضاء حوائجهم، يؤثرونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. هؤلاء هم أحب الناس إلى الله..
أما بعد: لنتخيل هذا الموقف.. في يوم من الأيام جاءك رجل مقرب من الملك.. وأخبرك بأن الملك عُرِضَت عليه بعض أعمالك فذكرك بالخير، وأخبر جلساءه أنك من أحب شعبه إليه.
أخبرني حينها.. كيف سيكون شعورك؟! ما هو مقدار غبطتك وسرورك؟! فرحتك بالعمل الذي قدمته ! فخرك بذكرك في مجلس الملك؟! تميزك عن ملايين شعبه حين يختارك من بينهم؟! تطلعك لما يعقب هذا التصريح من مكرمات وأعطيات وهبات كيف لا وأنت الآن أصبحت حبيب الملك؟!
مشاعر قد لا يمكن وصفها بالكلمات لكنها ستكون فعلا مشاعر عظيمة.. إذا كانت هذه المشاعر كلها ستحصل حين يحبك ملك من ملوك الدنيا -وحق لك ذلك-.. فحدثني عن مشاعرك إذا أحبك ملك الملوك -سبحانه-.
وحين يحب ملك الملوك فإن المكرمات ستكون مختلفة والأعطيات ستكون مضاعفة والهبات ستكون بغير حساب.. في الحديث القدسي يقول ملك الملوك -سبحانه-: "فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"
هذه مكرمة حبيب الله في الدنيا (وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:17]؛ منزلة عالية ومكانة جليلة. ولعظم هذه المنزلة كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحرص الناس عليها؛ فقد جاء أحدهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال مسترشدًا: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله؟
سؤال عظيم لا شك أن من سمعه تلهف وألقى السمع وأنصت ليعرف الجواب.. يا ترى من هؤلاء الذين سيخبر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكونوا أحب الناس إلى الله؟ هم ليسوا فقط بلغوا منزلة حب الله لهم، بل بلغوا هذه المنزلة وأدركوا أعلى درجاتها فكانوا أحب الناس إلى الله.
سأل السائل فإذا بالجواب يأتي عذبًا زلالاً من فم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا، ومَن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومَن كظم غيظه ولو شاء أن يُمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام".
هؤلاء هم أحب الناس إلى الله، أولئك الذين يتفننون في نفع الناس وجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم؛ يتفننون في إسعادهم، يسعون بكل شيء لكشف كروبهم، يضحون بما عندهم لقضاء حوائجهم، يؤثرونهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. هؤلاء هم أحب الناس إلى الله..
حين تزور والديك وتقبلهما فترى البسمة في وجوههما، حين تسمع زوجك كلمة ثناء فيطير قلبها فرحًا، حين تذهب بابنك ليلعب ويمرح فيتهلل وجهه سعادة وبهجة، فأنت بهذا تدخل السرور على قلوبهم، وتكون قد أديت أحب الأعمال إلى الله.
حين ترى العامل المسكين يعاني من ظروف المعيشة، وغربة الأهل والأوطان، وتراكم الديون والهموم، فترفق بحاله وتقدم ما عندك لتكشف به كربته أو تقضي شيئًا من دينه، فأنت بهذا تكون قد أديت أحبّ الأعمال إلى الله.
حين تعلم عن تلك الأرملة التي توفي زوجها وخلف وراءه أيتامًا، وهم يعانون شدة الفاقة وضيق الحال، فما تنساهم حيث يودع راتبك، وتتذكرهم حين تذهب إلى السوق، وتسعى لهم بكل خير ومعروف، فأنت بهذا تكون قد أديت أحب الأعمال إلى الله.
حين يأتيك أخوك المسلم يطلب منك خدمة، فتعينه بما تستطيع وتمشي معه في حاجته حتى تقضيها له كما يريد، فأنت بذلك تكون خيرًا ممن اعتكف في مسجد المدينة شهرًا، وتكون قد أتيت بعمل يثبت قدمك يوم تزل الأقدام.
هذه بعض أبواب نفع الناس التي قد يصل الإنسان بها إلى أن يكون أحب الناس إلى الله..
وأبواب النفع كثيرة غير محصورة، ومن أعظم أبواب النفع: نفع الناس في دينهم بدعوتهم إلى الخير وتعليمهم القرآن والسنة، وأمرهم بالمعروف ونهييهم عن المنكر، فحين تعلّم ولدك الفاتحة مثلاً فينتفع بها في دنياه وأخراه فبذلك تكون قد نفعته بأعظم أبواب النفع.
ومما ينبغي التنبيه والتأكيد عليه أن هذه الأمور لا تنفع الإنسان إلا إذا أقامها على قاعدة الإخلاص والاحتساب لله، فيعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله -تعالى-، لا جاه ولا شهرة، ولا رياء ولا سمعة، حاله كحال من وصف الله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان:9]، وكحال من قال الله فيه: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)[الليل: 19-20].
فمن كان هذا حاله فليبشر بمكرمات الله وأعطياته لأحبابه، والجزاء من جنس العمل، قال -صلى الله عليه وسلم- : "مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ"، وإذا كان الله معينك فأيّ شيء تريد بعد ذلك؟
فحري بالإنسان أن يضرب بسهم في باب أو أكثر من أبواب النفع، وكل منا يستطيع ذلك، فمن رزقه الله مالاً فلا يبخل على إخوانه، ومَن رفعه الله بجاه فلا يقصر في خدمة المسلمين، ومن أعطاه الله صحة فليبذلها سعيًا في أبواب الخير، ومن آتاه الله علمًا فليبثه لأمة الإسلام، وغير ذلك مما لا يسع المجال لذكره، المهم أن تكون من أهل المعروف وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صَنائِعُ المَعْرُوفُ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ والآفَاتِ والهلكَاتِ، وأهلُ المعروفِ في الدنيا هُمْ أهلُ المعروفِ في الآخرةِ".
بارك الله لي ولكم.
معاشر المسلمين: في هذه الأيام يقدّم الحجاج إلى هذه البلاد الطاهرة، الحجاج الذين هم وفد الله وضيوفه، جاءوا من كل فج عميق ملبين نداء الله لهم.. وكثير منا يختلط بهم إما في الحج أو بعمل في تسهيل إجراءاتهم أو بالسعي في الرزق في هذا الموسم أو غير ذلك، فالله الله يا إخواني في ضيوف الرحمن.
إن كنا نتكلم عن أن نفع عامة الناس هي من أحب الأعمال إلى الله؛ فما بالكم بنفع أولئك الحجاج الذين هم وفد الله دعاهم فأجابوه.
لقد كانت قريش في جاهليتها تسابق في خدمة الحجاج، وكانت قبائلهم تتنافس في بذل النفع لهم، فحريّ بنا نحن المسلمون أن نسعى بكل ما نستطيع لخدمة الحجاج وتيسير أمورهم.
وليكن لك جهد بمالك أو بدنك في خدمتهم ونفعهم وبذل الخير لهم، وأبواب الخير مفتوحة، وقد يسرت بلادنا المباركة -ولله الحمد- العديد من أبواب النفع وخدمة الحجاج وبذل الغالي والنفيس في ذلك، فلنكرم ضيوف الرحمن؛ عسى الله أن يكرمنا بعظيم كرمه وجوده.
والحذر الحذر إخواني من استغلال غربتهم بخداعهم أو احتقارهم أو مسّهم بأيّ ضرر أو أذى.
اللهم وَفِّقْنا للعمل بطاعتك وبَلِّغنا محبتك ورضاك..
اللهم يَسِّر للحجاج حجّهم واحفظهم من كل شَرّ ووفقهم لحج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي