فتجد من لا يبالي بنشر المحرمات لتزيد متابعاتِه، ولا يتورع عن شذوذات الأخلاق حتى يصبح حديث الساحة، ويتحدث في أمور الأمة بالعلم والجهل حتى لا يغيب عن المشهد، ويصور زوجته حتى لا يصفَه الناس بالانغلاق، وتخلع حجابها استجابة لضغط جماهيرها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
هم حديث العالم، وأحباب الملايين, أسماؤهم تصدح في الأرجاء، وبلغت رتبة شرفهم السماء, قد لا يكون لهم منابرُ إعلامية، أو حساباتٌ بمتابعاتٍ مليونية, قد تجد فيهم العالمَ الحاذق، والطبيبَ الماهر, وقد تجد فيهم كذلك عاملَ النظافة، وخادمةَ المنزل.
هل عرفتم من هم؟, إنهم مشاهير السماء, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّماءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في أهْلِ الأرْضِ".
الله أكبر! ما أعظم المنزلة، وما أجل المكانة! أي شرف؟! أي فخر؟! أي إنجاز؟! يذكر اسمه في الملأ الأعلى، عند العظيم الجليل، عند ملك الملوك؛ "إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا", ثم يطير جبريل بهذا الاسم؛ لتُطبقَ شهرتُه عوالمَ السماء، فيعرفوه ويحبوه، ثم يكونُ له القَبولُ في الأرض!.
لقد عرفوا الغاية، فسلكوا الطريق، وبلغوا المنزل, يقول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".
هؤلاء يسيرون على طريق واضح، وخط مستقيم، غايتهم هو نيل محبة الله ورضوانه، بسلوك شرعه، واتباع سبيله، واجتناب حرماته.
يسيرون في الطريق، سَواءً عرفتهم الجماهير أم لم تعرفْهم، تابع حساباتُهم الملايين أم لم تتابعْهم, المهم هو رضا الله.
إن نالوا محامدَ الناس وثناءَهم، حمدوا الله وشكروه على ما سخر هو -سبحانه- ألسنةَ الناس للدعاءِ لهم, وذكرِهم بالحسنى، وقد قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عليه؟", قالَ: "تِلكَ عَاجِلُ بُشْرَى المُؤْمِنِ".
وإن لم ينالوا ذلك فليس هذا هو أقصى أمانيهم، ولا غايةَ مطلوبهم, لما جاء البشير إلى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- يبشره بأحد الفتوحات، أراد عمر أن يطمئن على رجال الجيش, فظل يسأل عمن قتل، فظلوا يعددون له: فلان وفلان، فبكى عمر واستعبر، ثم قال: ومن أيضا؟, فقالوا له: "وآخَرونَ -يا أميرَ المؤمنين- لا تعرِفُهم", فقال عمرُ -رضوانُ اللهِ عليه- وهو يبكي: "لا يضُرُّهم ألَّا يعرِفَهم عمرُ؛ لكنَّ اللهَ يعرِفُهم", هذا هو المحك، وهذه هي الغاية "لكن الله يعرفهم", "لكن الله يعرفهم".
كان زاهر بن حرام أحد أهل البادية الذين يقدمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وكان دميما قبيح الوجه, فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يومًا وهو يبيع متاعه، فاحتضنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلفِه وهو لا يبصرُه، فقال: أرسِلْني، من هذا؟! فالتفت، فعرف النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألو ما ألزق ظهرَه بصدرِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، وجعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يمازحه ويقول: "من يشتري العبدَ؟"، فقال: يا رسولَ اللهِ! إذًا -واللهِ- تجدني كاسدًا، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لكن عندَ الله لستَ بكاسد", ثمين غال في السماء، وإن كنت في الأرض لست كذلك.
يا عبد الله: لا يغرنك أن لا يعرفك أكثر الناس، فرب مغمور في الدنيا مشهور في الآخرة، "لم يشتهر سعيد بن زيد بن عمرو مثل الرواة المكثرين, لكنه كان من العشرة المبشرين.
لم يشتهر الطفيل بن عمرو -رضي الله عنه- شهرة أبي هريرة -رضي الله عنه-، ولكن الثاني في ميزان الأول, لما أسلم الطفيل ذهب إلى قبيلته دوس فما جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا وقد أسلمت قبيلته كلها, وفيهم أبو هريرة -رضي الله عنه-, وكل رواية تدور في الدنيا من فم أبي هريرة يحط على كفّ الطفيل كِفْل منها.
أنتم تعرفون عمر بن عبدالعزيز، ولكن الناس لا تعرف من أشار بتوليته وهو رجاء بن حيوة, الذي اختزن أجر عمر في البرية كلها.
أنتم تعرفون أحمد بن حنبل ولكنكم لا تعرفون اسم المرأة التي كانت تمسك بيده في الغلس وهو غلام؛ حتى توصله إلى المسجد، وهي أمه العظيمة.
أنتم تعرفون إمام دار الهجرة ولكن الكثير لا يعرفون اسم المرأة التي قالت له: "اذهب إلى ربيعة؛ فتعلم من أدبه قبل علمه"، يقول مالك -رحمه الله-: "كانت أمي تعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه".
تعرفون ابن تيمية حق المعرفة, ولا تعرفون كثيرًا من تهجى معه الحروف الأولى؛ حتى صار إمام الأئمة.
تعرفون ابن باز ولا تعرفون من كان يقرأ عليه وهو أعمى"(خطبة مشاهير في السماء لعاصم الخضيري بتصرف يسير), كل هؤلاء لا يضرهم أننا لا نعرفُهم، إن كان الله عرفَهم وتقبلَ منهم أعمالَهم.
فازرع الخير، واسقه بماء الإخلاص، وابتغِ به وجه الله وحده، فإن أثمر في الدنيا فاحمد الله، وإن لم تجد ثمرته في الدنيا فالآخرة موعدك، ووالله لن يضيع الله جميلا صنعته، ولا خيرا قدمته (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 115].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله...
أما بعد: ها هو قد ملك قطيعا من الغنم، هو رأس ماله، وزينة دنياه, وفجأة!, يعدو ذئبان جائعان على القطيع، وعادة الذئاب الجائعة إذا هجمت على القطيع أنها تنهش كل ما استطاعت من الغنم, ثم تكتفي بأكل واحدة أو أكثر.
ولكم أن تتخيلوا حجمَ الفساد الذي أصاب القطيع، وحجمَ المصيبة التي تعرض لها صاحب الغنم, وهو يرى رأسَ ماله يهلك بين يديه, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غنَمٍ، بأفسدَ لَها من حِرصِ المَرءِ علَى المالِ والشَّرَفِ لدينِهِ", فيبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الفَسادَ الَّذي يأتي مِن الحِرصِ على المالِ, والحرص على الشرف والجاه والشهرة, قد يكونُ أعظمَ في فَسادِ دِينِ المرءِ وأكبرَ مِن إفسادِ الذِّئبَين الجائعَينِ في الغنَمِ.
فالحرص على الشرف والشهرة، من أضر الأمور على دينك الذي هو رأس مالك, والمشكلة ليست في ذات الشهرة؛ فقد كان كثير من الأنبياء والصالحين من المشاهير الذين أطبقت سمعتُهم الآفاق, لكن المشكلة الكبرى أن تكون الشهرةُ هي الغايةُ التي يسعى المرء إلى الوصول إليها بكل طريق؛ فتصير هي وجهتُه، وقبلتُه، والمركزُ في حياته!.
فيسعى لرضا الناس ولو بسخط ربه، ويبذلَ الغالي والنفيسَ من أجل محبة الناس، ولو كان في ذلك غضب مولاه, ويرائي الناسَ بدينِه؛ ليتخذَه سلما للوصول إلى مبتغاه من الشهرة والجاه!.
وقد ابتلينا في زماننا هذا بمنابر يتسلقها الجميع، من يستحقها ومن لا يستحقها، تجمع الطيب والخبيث، والحكيم والجاهل، ويختلط على كثير من الناس فيها العالم من التافه الذي يتكلم في أمور العامة!.
فتجد من لا يبالي بنشر المحرمات لتزيد متابعاتِه، ولا يتورع عن شذوذات الأخلاق حتى يصبح حديث الساحة، ويتحدث في أمور الأمة بالعلم والجهل؛ حتى لا يغيب عن المشهد، ويصور زوجته حتى لا يصفَه الناس بالانغلاق، وتخلع حجابها استجابة لضغط جماهيرها, يتشكلون ويتلونون بكل جميل وقبيح؛ حسب ما يطلبه المشاهدون والمستمعون!.
والضحية هم أبناء وبنات الجيل، الذين اختلت عند كثير منهم الموازين، فظنوا أن الرفعة والمكانة بعدد المتابعين وكثرة المشاهدات، لا بالقيم والمبادئ والأخلاق, وما أشد خطر هؤلاء على أبنائنا وبناتنا حين يتخذونهم قدوات، يحاكون أفعالهم، ويقلدون أسلوب حياتهم، وينخدعون بمظاهرهم!.
وما الشهرة الزائفة -والله- إلا كالبالونة المنتفخة الممتلئة، ولكن بالهواء، ما تلبث كثيرا حتى يأتي عليها يوم فتنفقعَ ويكتشفَ الناسُ خواءها, حالها كحال كل زخارف الدنيا الزائلة الفانية؛ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 45 - 46]
فالصالحات والقيم والمبادئ والأخلاق هي التي تبقى لك، وهي الطريق الوحيد لتحصيل سعادة الدنيا ونعيم الآخرة؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[النساء: 134], (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[البقرة: 200 - 202].
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي