مَنْ تَفَكَّرَ لأَيِّ مَعْنَىً خُلِق؛ أَيْقَنَ أَنَّه في رِحْلَة، ويَبْدَأُ السَّفَرُ مِنْ ظُهُورِ الآباء، إلى بُطُونِ الأُمَّهَات، ثُمَّ إلى الدُّنيا، ثُمَّ إلى القَبْر، ثُمَّ إلى الحَشْر، ثُمَّ إلى دَارِ الإِقَامَةِ الأَبَدِيَّة؛ فَتَزَوَّدْ لِتِلْكَ الرِّحْلَة...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
أَمَّا بَعْد: إِنَّهَا المِرْآةُ الَّتِي تُرِيْكَ حَسَنَاتِكَ وَسِيّئَاتِك، والمِنْظَارُ الَّذِي يُرَاقِبُ عَوَاقِبَ أَحْوَالِك؛ إِنَّهُ سَبَبُ العِبْرَة، وَمُزِيْلُ الغَفْلَة؛ وَجَالِبُ الخَشْيَة؛ إِنَّهُ التَّفَكُّر!
إِذا الْمَرْءُ كَانَت لَهُ فِكْرَة *** فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَة!
وَأَصْحَابُ العُقُول يَذْكُرُوْنَ الحَقَّ، وَيَتَفَكَّرُوْنَ في الخَلْق، وَكُلُّ مَا يَرَوْنَهُ في هَذِهِ الدُّنْيا يُذَكِّرُهُمْ بـالآخِرَة، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191].
وَمَنْ تَفَكَّرَ في هذا الكَوْن وَبَدِيعِ صُنْعِه ازْدَادَ يَقِيْنُهُ بِخَالِقِه، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)[الطور:35-36].
قِيْلَ لِأَعْرَابِيّ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟، فقال: "الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَأثَرُ الْأَقْدَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، أَلَا تَدُلُّ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ!؟".
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ *** تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ!
ومَنْ تَفَكَّرَ في عَظَمَةِ اللهِ طاشَ عَقْلُه، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الزمر: 67]، قال بِشْرُ بنُ الحَارِث: "لَوْ تَفَكَّرَ النَّاسُ في عَظَمَةِ اللهِ؛ مَا عَصَوْا الله".
والتَّفَكُّرُ في النِّعِمَ يُوْجِبُ شُكْرَ المُنْعِم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ الله"(أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني)
وَقَدْ قِيْل: "لا تُنَالُ لُقْمَةٌ؛ إِلَّا وَقَدْ عَمِلَ فِيْهَا ثَلَاثُمِائَةِ نَفْسٍ!".
وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ بِالتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّر أَنْفَعُ شَيءٍ لِلْقَلْب، قال ابنُ جَرِير: "إِنّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ قَرَأَ القُرْآنَ، وَلَمْ يَعْلَمْ تَأْوِيْلَه؛ كَيْفَ يَلْتَذُّ بِقِرَاءَتِه!؟".
وَمَنْ تَفَكَّرَ في تَعَبِ الدُّنْيا وَأَذَاهَا عَلِمَ أَنَّهُ لا رَاحَةَ إلا في الجَنَّة، قال تعالى عَنْ أَهْلِهَا: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[الإنسان:13]، قال ابنُ كَثِير: "أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِم!".
وَمَنْ فَكَّرَ في الآخِرَةِ وَشَرَفِهَا وَدَوَامِهَا، وَفِي الدُّنْيَا وَخِسَّتِهَا وَفَنَائِهَا أَثْمَرَ لَهُ الرَّغْبَةَ في البَاقِيَة، والزُّهْدَ في الفَانِيَة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مَطْعَمَ ابْنِ آدَمَ، جُعِلَ مَثَلًا لِلدُّنْيَا، وَإِنْ قَزَّحَهُ وَمَلَّحَهُ؛ فَانْظُرُوا إِلَى مَا يَصِيرُ!"(رواه أحمد في المسند، وصححه الألباني)
وَمَنْ تَفَكَّرَ في قِصَرِ الأَمَل، وَقُرْبِ الأَجَل أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الجِدَّ والعَمَل، واغْتِنَامَ العُمُر، قال بَعْضُهُم: "اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلَانِ فِيْكَ؛ فَاعْمَلْ فِيهِمَا!".
وَمَنْ تَفَكَّرَ في تَقَلُّبِ الدُّنْيَا عَلِمَ أَنَّها لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَار، قال ابنُ رَجَب: "واخْتِلَافُ أَحْوَالِ الدُّنيا: مِنْ حَرٍّ وبَرْدٍ، ولَيْلٍ ونَهار، وَغَيْرِ ذلك؛ يَدُلُّ على انْقِضَائِهَا وَزَوَالِها!". (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور:44].
والتَّفَكُّرُ في النَّوْمِ واليَقَظَةِ مِنْه يُذَكِّرُ بالمَوْتِ والبَعْث؛ فَهُوَ الوَفَاةُ الصُّغْرَى، التي تُذَكِّرُ بالوَفَاةِ الكُبْرَى، وكانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذا قامَ مِنْ نَوْمِهِ قال: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"(رواه البخاري).
وَالْتَّفَكُّرُ في قَصَصِ الصَّالِحِين، وَمَصَارِعِ الظَّالِمِيْن تُثَبِّتُ القَلْب، وتُقَوِّي العَزْم! قال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف:176].
وَمَنْ فَكَّرَ فِيْمَا لا يَعْنِيه فَاتَهُ ما يَعْنِيه، قال ابنُ القَيِّم: "أَنْفَعُ الدَّوَاء أَنْ تَشْغَلَ نَفْسَكَ بِالفِكْرِ فِيْمَا يَعْنِيْكَ؛ فَالْفِكْرُ فِيْما لا يَعْنِي: بَابُ كُلِّ شَر!".
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
عِبَادَ الله: مَنْ تَفَكَّرَ لأَيِّ مَعْنَىً خُلِق؛ أَيْقَنَ أَنَّه في رِحْلَة، ويَبْدَأُ السَّفَرُ مِنْ ظُهُورِ الآباء، إلى بُطُونِ الأُمَّهَات، ثُمَّ إلى الدُّنيا، ثُمَّ إلى القَبْر، ثُمَّ إلى الحَشْر، ثُمَّ إلى دَارِ الإِقَامَةِ الأَبَدِيَّة؛ فَتَزَوَّدْ لِتِلْكَ الرِّحْلَة، (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي