قصة المقداد والأعنز من سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. أهمية مدارسة السيرة النبوية .
  2. تفاصيل قصة المقداد والأعنز .
  3. دروس وعبر مستفادة من القصة. .

اقتباس

وهذا القصة تبين لنا ما كان عليه الصحابة من شظفِ العيشِ وقلةِ ذات اليد.. ثم إن حُسنَ خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وحِلمَه وكرمَ نفسه ظهرت جليةً في هذه القصة، وكذلك إغضاؤه عن حقوقه...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ مُعِزِّ مَن أطاعه واتقاه، ومُذلِّ مَن خالفَه وعصَاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن ولاه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلقد دعا اللهُ للتقوى عبادَه المؤمنين دعوةً صريحةً فقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، وفَسَّرَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تقوى اللهِ حقَ تقواه فقالَ: هي أن يُطاعَ فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر.

أيها الإخوة: من جميل ما ينبغي أن يتداوله الناس ويقرؤنه بمجالسهم سيرة حبيبهم -صلى الله عليه وسلم-؛ لما لها أثر بزيادة محبته والاقتداء به.

وقد يظن بعض الناس أن السيرة غزوات فقط. وهذا غير صحيح؛ فسيرته -صلى الله عليه وسلم- كذلك مليئة بالعِبَر ففيها قصص اجتماعية وآيات ومعجزات نبوية وشمائل نبوية وقصص يرويها النبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّن قبلنا؛ تُذْكِي فينا هِمَم العطاء والبذل والفداء.

ومن طريف القصص قصة المقداد -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- والأعنز، وقد روى القصةَ مسلمٌ في صحيحه والترمذيُّ في سننه وأحمدُ وابن أبي شيبة في مسنديهما، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- الملقب ابن الأسود وهو صحابي جليل من ممن شهد يدراً والمشاهد كلها، وقد حدَّثَ فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-:

"أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِي، وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ، -الجوع والمشقة والجوع يُؤثّر على سمع الإنسان وبصره- فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا، -لأن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مُقلّين ليس عندهم شيء يواسون به، وهذا يبين الشدة التي كان عليها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، والفقر الذي عاينوه ولاقوه-.

فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ، -وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يفعل، إذا أتاه رجل جائع ولم يوجد من يطعمه، يذهب به إلى أهله- فَإِذَا ثَلَاثَةُ أَعْنُزٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا"، وفي رواية: فقال لي: "يا مقداد! جَزِّأ ألبانها بيننا أرباعاً"؛ فكنت أجزؤه بيننا أرباعاً، قَالَ: فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ، وَنَرْفَعُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- نَصِيبَهُ، قَالَ: فَيَجِيءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ نَائِمًا، وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَأْتِي شَرَابَهُ فَيَشْرَبُهُ.

قَالَ: فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقَالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ فَاشْرَبْهَا، قَالَ: مَا زَالَ يُزَيِّنُ لِي حَتَّى أَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ.

قال: وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ مِنْ صُوفٍ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، -أي: أن الذي عنده كساءٌ يتغطَّى ويلتف به قصيرٌ لا يكفي، وهذا من فقره -رضي الله عنه- وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ. وَأَمَّا صَاحِبَايَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ، -أي أنه هو الذي أجرم وأذنب، وأخذ شربة النبي -صلى الله عليه وسلم- أما هما فلم يفعلا ما فعل-.

قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: الْآنَ يَدْعُو عَلَيَّ فَأَهْلِكُ، فَقَالَ: "اللهُمَّ، أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي"، قَالَ: فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَيَّ، -أي أنه اغتنم الدعوة وتبدَّل خوفه رجاء بعد سماع الدعوة؛ لأن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة- وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ -السكين- فَانْطَلَقْتُ إِلَى الْأَعْنُزِ أَجُسُّهُنَّ أَيَّتُهُنَّ أَسْمَنُ، فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا هِيَ حَافِلَةٌ، وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ -مملوءة ضروعهن باللبن-.

فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لِآلِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ، قَالَ: فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ الرَّغْوَةُ، -هي زبد اللبن الذي يعلوه بعد الحلب- فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ يَا مِقْدَادُ"؟.

قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْرَبْ، -لم يجب بل هرب من الجواب وعرض الشرب عليه -صلى الله عليه وسلم-- فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اشْرَبْ، فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، فَأَخَذْتُ مَا بَقِيَ فَشَرِبْتُ، فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ رَوِيَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ، ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الْأَرْضِ.

قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِحْدَى سَوْءاتِكَ يَا مِقْدَادُ" -أي أنك فعلت سوأة من الفعلات فما هي؟، فهذه الضحكة ما وراءها إلا فعلةً فعلتها وسوءةً أقدمت عليها، فما هي؟-.

قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ مِنْ أَمْرِي كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا كَانَتْ هَذِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللهِ"، -أي إحداث هذا اللبن في غير وقته، وخلاف عادته من فضل الله؛ فقد امتلأت ضروعهن خلال وقت قصير، وهذا خلاف المعتاد؛ فالمعتاد لا يمكن أن تمتلئ أثدائهن خلال وقت قصير.

"أَفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا"، قَالَ: فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُبَالِي إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ؛ لأن البركة أصابتني وكذلك أصابتني دعوتك يا رسول الله- مَا أُبَالِي مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ.. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعظِيماً لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، المُؤيَّدُ بِبُرهَانِـهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.

أَمَا بَعْدُ: فإن امتثال العبد لتقوى الله -تعالى- عنوان السعادة.. وعلامة الفلاح.. قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال:29].

أيها الإخوة: هذه القصة تضمنت دروساً وعبراً كثيرةً نشيرُ لشيءٍ منها: ففيها بركةُ دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعجزةٌ ظاهرةٌ له -صلى الله عليه وسلم-، وهي أن هذه الأعنز كانت فارغة الضروع، وقد حُلِبَتْ قبل وقت قصير، فكيف درَّت وامتلأت مرة ثانية أكثر مما كان..

وهذا خلاف العادة؛ فهذه آية من آيات الله أعطاها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وقصدها بقوله: "مَا كَانَتْ هَذِهِ إِلَّا رَحْمَةً مِنَ اللهِ"، وفي رواية أنه قال: "هَذِهِ بَركَةٌ"، وردُّ الأمرِ للهِ قمةُ التسليم للهِ والخروجِ من الحول والقوة، وهكذا ينبغي للمؤمن إذا حقَّق إنجازاً ينبغي له أن ينسبه لله -تعالى- إيماناً وتسليماً وتجرداً من الحول والقوة، وهذا من شكر النعمة التي أمرنا بها.

وهذا القصة تبين لنا ما كان عليه الصحابة من شظفِ العيشِ وقلةِ ذات اليد.. ثم إن حُسنَ خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وحِلمَه وكرمَ نفسه ظهرت جليةً في هذه القصة، وكذلك إغضاؤه عن حقوقه، فلم يقل: أين نصيبي، بل سأل سؤالاً يوحي بعدم اللوم والاهتمام بأمرهم فقال: "أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ يَا مِقْدَادُ

ومن كريم خلقه -صلى الله عليه وسلم- الذي ينبغي أن يتمثّله المسلم الدعاءَ للمحسن والخادم، وكلَ من يعمل لك خيراً سواء في الماضي أو الحاضر، وإن كان الدعاء لمن يصنع لك معرفاً في المستقبل فهذا منتهى الكرم، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهُمَّ، أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِي".

وفيه: أن الإنسان إذا جاء إلى مجموعة ظاهرهم النوم، ولكن يحتمل أن بعضهم ما ناموا بعد، فإن طريقة السلام حينئذٍ أن يُسلّم بصوتٍ متوسط لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان حتى يرد السلام، وهكذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفيه: أن الشيطان يُسوّل للإنسان فِعْل المعصية، فإذا أوقعه بما يريد من المخالفة.. لبسَ لباسَ الناسكِ، ونَدَّمَهُ على فِعْله إمعاناً بإضراره.

وفيه: أنه ينبغي للمسلم إذا حضره خير ألا ينسى أصحابه وإخوانه وجيرانه. فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمقداد: "أَفَلَا كُنْتَ آذَنْتَنِي فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا".

وأن المسلم إذا جاع وبلغ الجوع به غايته؛ فله عرض نفسه على مَن يطعمه ولا حرج في ذلك.

وفيه: أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة.. هذه بعض ما تضمنته هذه القصة اللطيفة من الفوائد.

وبعد: كم من الأثر الإيجابي الذي نحسه في أنفسنا بعد سماع هذا الحدث من السيرة العطرة.. أقول لعله يكون حافزاً لنا لجعل جزء من وقتنا للاطلاع على سيرة حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-.

نسأل الله -تعالى- بمنّه وكرمه أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ إنه جواد كريم.

وصلوا وسلموا...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي