قيمة الحياة

د عبدالعزيز بن حمود التويجري
عناصر الخطبة
  1. سرعة انقضاء الأيام .
  2. أصناف الناس في الدنيا .
  3. اغتنام الأعمار في الباقيات الصالحات .
  4. علو همة المسلم .
  5. قلة البركة في الأعمار. .

اقتباس

فمن الناس ما تزيده الأعوام إلا رفعةً في إيمانه، وثباتًا في دينه، ورقيًّا في خُلقه، وشموخًا في هِمّته، ومنهم من يضيع نفائس عمره، وجوهرة شبابه، خلف شهوات النفس، وأماني الأحلام.. فما تزيده الأعوام إلا تذبذبًا في المنهج، وضعفًا في الإيمان.. فتزل القدم عند أول عاصفة، وتتعثر الخطى عند أول فتنة، ويحتار العقل عند أي شبهة، فلا يقين يُثبّته، ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الولي الحميد يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر:18].

إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها  ***  وكل يوم مضى يُدْنِي من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا ***  فإنما الربح والخسران في العمل

تتصرم الأعوام سراعًا، وتخطفت المنايا فيها أحبابًا وأصحابًا وعبادا "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ، الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةٌ الشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بهم بَالَةً"(أخرجه البخاري).

ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ".

الدنيا مراحل، والإنسان فيها يمضي بعمره يتخطَّى تلك المراحلُ مرحلةً مرحلةً.. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم:54].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، فمن الناس ما تزيده الأعوام إلا رفعةً في إيمانه، وثباتًا في دينه، ورقيًّا في خُلقه، وشموخًا في هِمّته، ومنهم من يضيع نفائس عمره، وجوهرة شبابه، خلف شهوات النفس، وأماني الأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح، يعيش سبات التيه.. فما تزيده الأعوام إلا تذبذبًا في المنهج، وضعفًا في الإيمان.. فتزل القدم عند أول عاصفة، وتتعثر الخطى عند أول فتنة، ويحتار العقل عند أي شبهة، فلا يقين يُثبّته، ولا عِلْم يهديه.. "كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا".

أحداث ومستجدات وانفتاح.. تزل معها أقدام، وتجعل من الحليم حيران، يحتاج معها الفطن تعاهد الإيمان، والاستزادة من الباقيات الصالحات، وتحصيل العلم النافع.

قَالَ عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنهُ-: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا"، وقَالَ البخاري: "وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ"؛ فيا حسرة الأعمار تضييع نفائس العمر في غير منفعة.

أخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: "إِنِّي لَأَمْقُتُ أَنْ أَرَى الرَّجُلَ فَارِغًا لَا فِي عَمِلِ دُنْيَا، وَلَا آخِرَةٍ"؛ أَيْ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِذَهَابِ عمره. يروح ويجي بلا طائل، لا هدف ولا غاية.

وفي ترجمة ابن وهب: "لا يكون البطال من الحكماء".

  وما أقبح التفريطَ في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شاعل؟!

  ترحّل من الدنيا بزاد من التقى ***  فعمرك أيام وهن قلائل

لا تطلب السلعة الغالية بالثمن التافه، والمجد لا يُشْرَى بقولٍ كاذبٍ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة:214].

السير بلا هدف إهدار للحياة، وقيمة كل امرئ ما يحسنه.  عاش أبو بكر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتين وبضعةَ أشهرٍ أنجز فيها ما تعجز عن إنجازه الدول والحضارات في قرون.. حارب المرتدين، وأعاد الجزيرة إلى الإسلام، وحطَّم فارس وحاصَر الروم، وفتح المدائن والقلاع، وفرَض الجزية، وأمَّن الناس عربهم وعجمهم، وجمع القرآن ونشر الإسلام. كل ذلك في ثلاثين شهرًا. بركة من الله وصِدْق من الصِّدِّيق.

فمن هجر اللذات نال المنى  ***  ومن أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد

(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ لِفتى مِنَ الأَنْصَارِ: هَلُمَّ نَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُوْلِ اللهِ؛ فَإِنَّهُمُ اليَوْمَ كَثِيْرٌ، فَقَالَ: وَاعَجَباً لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ مَنْ تَرَى؟ فَتَرَكَ ذَلِكَ الرجل، وَأَقْبَلْتُ عَلَى المَسْألَةِ، ولزمتُ زيد بن ثابت أغدو إليه كل صباح، وبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَذَا الفَتَى أَعقَلُ مِنِّي".

عند الصباح يحمد القوم السرى  ***  وتنجلي عنهم غيابات الكرى

سَوف يدرى الجهول عِنْد انقضا الْعُمر *** سدى.. كَيفَ ضَاعَ مِنْهُ فيندمُ

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربكم لغفور شكور.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد: المسلم لا يقنع حتى يبلغ من أعماله غايتها وأعلاها: فإن كان طالباً لم يقنع إلا بالتفوق، وإن كان أباً لم يقصّر في أن يبلغ أبناءه وبناته، أن يكونوا قدوات في الخير، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان:74]، وكان -عليه الصلاة والسلام- يربي الأمة طلب المعالي: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"(أخرجه البخاري).

المسلم لو كان صانعاً لا يرضى بمنزلة دون الإتقان، فلا قيمة لمن اتكل على غيره، ونظر إلى الأسفل على الدوام.

وإذا باركَ الله في حياة الإنسان نفع نفسه وانتفع منه أهله والناس.. رأى الناس في حياة ابن باز عجبًا.. يُعلّم ويفتي، ويقضي ويوجّه، ويحاضر ويحضر، وترأس أعمالاً ووزارات، ومع ذلك له ورد من قيام الليل وقراءة القرآن.

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم ***وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

قلة البركة في الأعمار تظهر حينما تمر السنة والسنتان والعشر، والواحد منا لم يتجاوز مكانه، في عبادته، في علمه، في حفظه لكتاب الله، في تفقهه في دينه، في نفعه للآخرين. لا يستشرف علواً، ولا يتطلع سموًّا.

  ومن لم يزده السن ما عاش عبرةً  ***  فذاك الذي لا يستنيرُ بنور

واغتنام الصالحات تزيد من الحسنات، "وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، يُكَفِّرَ الله به السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، وكان الأنصار "يُصَوِّمُون صِبْيَانَهم عاشورا، وَيجعَلُون لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَوه إياه حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ"(متفق عليه).

ويستحب صيام التاسع معه؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"(أخرجه مسلم).

اللهم زِدنَا علمًا وعملاً ورزقًا وتوفيقًا.. اللهم بارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وفي أرزاقنا وذرياتنا.

اللهم صَلِّ وسَلِّمْ على عبدك ورسولك نبينا محمد...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي