رحيل علماء الأمة.. ثلمة وإحياء همة

عدنان مصطفى خطاطبة
عناصر الخطبة
  1. موت العالم ثلمة في الإسلام .
  2. موت العلماء في الأيام الأخيرة .
  3. فضل العلماء الربانيين .
  4. جهود العلماء في حفظ الدين .
  5. الأدب مع العلماء .
  6. استغلال وجود العلماء بالانتفاع من علمهم .

اقتباس

فإذا تنكّب للعلماء ولحملة الدين أهل الأرض من بني الإنسان، بل من بني جلدتهم، وضيّقوا عليهم وحرموهم ومنعوهم وسعوا إلى طمس نورهم، فإنّ الله يبشرهم بأنّ من ورائهم العالم العلوي والعالم السفلي يحيط بهم ويحفهم ويحفل بهم، وإنه لناصرهم ولَمُظْهِر أمرهم ولو بعد حين؛ قال هارون الرشيد -أمير المؤمنين- يومًا ليحي بن أكثم: "ما أنبل المراتب؟!"...

 

 

 

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله. 

وبعد:

قال الحسن البصري: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".

أيها الإخوة المؤمنون: شهدنا في السنوات الأخيرة تسارعًا في رحيل بركات الأرض ورحمات السماء، شهدنا تسارعًا في رحيل علماء الأمة من مشارق الأرض ومن مغاربها، من أقصى الدنيا هناك في المشرق، حيث قضى قبل سنوات العلامة أبو الحسن الندوي، إلى أقصى المغرب في أعماق القارة الإفريقية حيث قضى الداعية الكبير الذي لقب بقاهر الصليبين أحمد ديدات، إلى أرض الكنانة والشام والجزيرة حيث تكاثر رحيل العلماء فيها، من ابن باز وابن عثيمين، إلى الشعراوي والغزالي وأحمد شاكر، إلى الألباني وبكر أبو زيد وابن غديان، إلى ابن جبرين وغيرهم من العلماء والدعاة الأفاضل -رحمهم الله-، وكأنّ السماء بدأت تأخذ نجومها وتسترد شموسها إليها، وإني والله لأخشى أنّ ما أخبر به نبينا وحبيبنا قد بات على وشك الظهور والبدوّ والتحقق، وذلك حينما قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". وحينما أخبر الأمة أن من علامات قرب قيام الساعة رحيل العلماء؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتظهر الفتن". وقبض العلم إنما يكون بموت العلماء.

نعم -أيها الإخوة- "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".

هذا ما فقهه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حينما قال: "موت ألف عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه". لماذا يا أيها الإخوة؟! لأن العابد يخدم نفسه وينجي نفسه بينما العالم يخدم أمة وينجي أمة، ولذلك حقّ للأمة أن تحزن على موت عالمها، وأن تبكي موت عالمها، بل لموت العالم شدته ووقعه على الأرض وأهلها، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، قال ابن عباس في تفسيرها: "خرابها بموت علمائها وأهل الخير منها".

نعم أيها الإخوة، "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء"، فموت العلماء ليس كموت أي أحد، لماذا؟! لأنّ بينهم وبين محمد نسبًا شريفًا لا يدانيه نسب في الأرض كلها، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري: "العلماء هم ورثة الأنبياء". نعم، فهم ورثة، هكذا شهد لهم نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا مات أحد العلماء فقد مات وريث من ورثة رسول الله؛ لذا كانت حياة العالم لا تقدر بأموال الدنيا كلها، وكان موته مصيبة لا تجبرها عطايا الأرض كلها، ولهذا لما مات عمر بن الخطاب -فاروق هذه الأمة وعالمها- بكاه سعيد بن زيد -رضي الله عنه- فقال له قائل: يا أبا الأعور: ما يبكيك؟! استمعوا ماذا قال، قال: "على الإسلام أبكي". إن موت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا تُرتق إلى يوم القيامة.

"موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء".

لماذا موت العالم لا غيره؟! لأن الله زكى العلماء، زكى شهادتهم في العالمين واصطفاهم شهداء وحدانيته: فقال -جل وعلا-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]، قال القرطبي: "لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته".

ورفع الله منازلهم في الدنيا ويوم يلقونه فقال -جل وعلا-: (يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، قال المفسرون: جاءت (دَرَجَاتٍ) نكرة لتشمل كل أنواع الدرجات في الدنيا والآخرة.

"موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء".

لماذا موت العالم لا غيره؟! لأن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عظّم قدرهم؛ فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: ذُكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدْنَاكُمْ"، ثُمَّ قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منزلة العلماء كلامًا لن تسمع أذنك مثله، كلامًا صادقًا لا تملق فيه ولا نفاق ولا نشوز، كلامًا لا يستحقه أحد لا بجاهه ولا بملكه ولا بماله ولا بمنصبه، لا يستحقه أحد على وجه الأرض إلا العلماء، وذلك حين قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأهْلَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الخَيْرَ".

فإذا تنكّب للعلماء ولحملة الدين أهل الأرض من بني الإنسان، بل من بني جلدتهم، وضيّقوا عليهم وحرموهم ومنعوهم وسعوا إلى طمس نورهم، فإنّ الله يبشرهم بأنّ من ورائهم العالم العلوي والعالم السفلي يحيط بهم ويحفهم ويحفل بهم، وإنه لناصرهم ولَمُظْهِر أمرهم ولو بعد حين؛ قال هارون الرشيد -أمير المؤمنين- يومًا ليحي بن أكثم: "ما أنبل المراتب؟!"، قال: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين، فلا أحد أجلّ منك، فقال هارون الرشيد -أمير المؤمنين الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا- قال: "بل أجلّ مني رجل يعلّم في حلقة ويقول: قال الله وقال رسول الله؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

هذا هو فقه هارون الرشيد لمكانة العلماء ولعلو مراتبهم، أراده أن يكون درسًا للأمة، وفهمًا للعامة، وإدراكًا للحاشية وأصحاب المناصب الرفيعة.

"موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء".

وحقّ للأرض أن تتصدع، وللسماء أن تحزن، وللأمة أن تبكي على موت العالم؛ لأن العالم حمل أمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حمل رسالته على عاتقه، حمل دعوته في قلبه وفي عقله، ألم يقل نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "العلماء هم ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم". نعم ورثوا العلم فنذروا أنفسهم له، فيا ترى أين يقضي العلماء أوقاتهم؟! وفيم يفنون أعمارهم؟! وكيف تمضي سنوات حياتهم؟! على أي شواطئ؟! وفي أي فنادق؟! وأمام أي قصور؟! وبين أية حدائق؟! لا هذا ولا ذاك، إنما قضوا أعمارهم في شيء واحد، قضوه وقفًا لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وقفًا على العلم ونشره، وقفًا لأجل دعوتك يا رب العاملين، ولذلك كان حقًّا على الله سبحانه -تفضلاً منه- أن يكرم وأن يجلّ من يعمل لدينه ومن ينصر دعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

نعم أيها المؤمنون، يرحل علماء الأمة وقد خلّفوا وراءهم سنين وأعوامًا مضنية، ودهورًا وليالي وأيامًا مضيئة، خدموا فيها دين الله، بينما يموت غيرهم من أصحاب المال والجاه والمناصب وقد خلّف بعضهم وراءه فسادًا وسوءًا في ماله وسمعته وأولاده وبناته، يموت الواحد منهم وما يذكر إنسان عنه يومًا أنه وقف إلى جانب الدين ينصره، ولا سجل له التاريخ مشهدًا صادقًا نصر فيه دعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإنما عاش لنفسه ولشهواته ولمصالحه يعبّ من حلال الدنيا وحرامها عبًّا، أين هذا من ذاك العالم الذي مات كمدًا وحزنًا على الإسلام وأهله، مات وهو يسعى ويحفد، ويسهر ويجهد لأجل أن يقيم الخلق على أمر الخالق ودينه، لأجل أن يقود الناس إلى شريعة الرب سبحانه وجنة الخلد ورضوانه.

اسألوا التاريخ: من حفظ على الأمة علمها؟! من حمى عقيدتها؟! من ذبّ عن حمى السنة؟! من حرك الأمة للجهاد؟! من بعثها لتدافع عن بلادها؟! من الذي يهدي الحائرين للحق ويجلب الضالين للهدى؟! مَنْ منْ إلا العلماء العاملون والدعاة المخلصون؟! أنتم ترون -أيها الإخوة- أغلب الفضائيات بم هي مشغولة، ولمَ تُفتَح وماذا تَبُث؟! ومن يقوم على أمرها ومن يأذن بها؟! إنها ومَنْ وراءها لا تقوم إلا لتدمر ما صنعه محمد -صلى الله عليه وسلم- وما يبنيه العلماء ورثة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!

إن من يشهد هذا كله ويفقه باطن الأمر وظاهره يعرف لم تدمع لموت العلماء عيون الأباعد قبل الأقارب، وتحزن قلوب تلاميذه قبل أصدقائه، ويذكره الجيل تلو الجيل؛ لأن نورهم لا يزال يتجدد وينبعث في أعقابهم، استمعوا ماذا يقول الذين يعرفون للعلماء قدرهم ودورهم في الأمة: قال يحيى بن جعفر: "لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -أي: البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم".

نعم -يا عباد الله- لأجل هذا كله قال ربنا العظيم الذي سيفصل بين العباد: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]. نعم، إنهم لا يستوون، لا في محياهم ولا في مماتهم، ولن يستووا لا في محشرهم ولا في جزائهم.

أيها الإخوة: إنّ احترام علماء الأمة وتقديرهم ونصرتهم وموالاتهم -أحياءً وأمواتًا- هو من عقيدتنا، هو من ديننا الذي نتعبد به الله سبحانه؛ يقول السعدي -رحمه الله-: "من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة". أي: يتقربون إلى الله تعالى بتوقير العلماء، وتعظيم حُرمتهم؛ عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه". أخرجه الإمام أحمد وقال المنذري: إسناده حسن.

وعن الشعبي قال: صلّى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال له زيد: "خلّ عنك يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ابن عباس: "هكذا يفعل بالعلماء والكبراء". وفي رواية عنه قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! قال: "إنا هكذا نصنع بالعلماء".

وقال طاوس بن كيسان: "إنّ من السنة أن توقر العالم". وإياك ثم إياك -يا أخي المسلم- أن تركب مركب المنافقين، وأن تصنع صنعة العلمانيين أولئك الأرجاس الذين يعادون علماء الأمة ودعاة الملة وحملة الدين المخلصين الصادقين، قال حبر الأمة ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد آذى الله -عزّ وجل-".

بل كن محبًّا لعلماء الأمة ونصيرًا لهم ووليًا لهم ما والوا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وما نصروا دينه ونبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

نعم، إنّ موت علماء الأمة مصيبة وثلمة، فاجعة لنا ومحْزَنة، ولكن العبد المؤمن، ولكن طالب العلم الراشد يسير على دربهم ويكمل مشوارهم، ينشر ما كتبوه، ويتفقه بما ألفوه، ويجتهد ليكمل ما أسسوه، ويتعاون مع محبيه وأتباعه ليجدّدوا ما تركوه، نعم يا طالب العلم، إن العالم الذي رحل يرضيه أن تخطو على خطاه، ويغضبه أن تقف في مكانك تدور حول رحاك، فمع دموعك التي تذرف نريد قلمك الذي يكتب وعقلك الذي يفكر، نريد شخصيتك المهتدية بهدي علمائنا الإجلاء في البحث والتعلم والتعليم، في الخلُق والتأليف، في الدعوة والتبليغ، في الدفاع عن قضايا الأمة ومقارعة الأعداء، في تخريج جيل يحمل الأمانة ويذود عن حمى الرسالة، ويجاهد في سبيلها، ويدفع عن علماء الكتاب والسنة كل شر وأذية، وينصر دين الله بكل أمانة وتضحية.

وتذكر معي دائمًا قول نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، وقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داود: "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها".

وإنّ على الأمة جميعها أن تنتهز فرصة وجود علماء الأمة الصادقين، علماء الكتاب والسنة العاملين، في الاستزادة من علمهم، وفي متابعة دروسهم وحضور مجالسهم، فهم عطاء الله ونعمته على عباده في كل زمان، فاحرص -يا عبد الله- على التزود من علم الكتاب والسنة، ومن علماء الكتاب والسنة، قبل أن يفاجئك رحيلهم، فهم يرحلون ويرحل معهم خير كثير، روى الدينوري المالكي في كتابه المجالسة وجواهر العلم عَنِ ابْنِ فُلَيْحٍ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا دُلِّيَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي قَبْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَرَى كَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ؛ فَهَكَذَا ذَهَابُ الْعِلْمِ".

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا، يا رب العالمين.
 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي