مِنَح العشر تترى

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. نفحات عشر ذي الحجة .
  2. فضائل يوم عرفة .
  3. رسالة لمن فاته الحج .
  4. عبرات عصر يوم عرفة .
  5. أيام التشريق وعبادة ذكر الله تعالى .
  6. الأضحية وتعظيم شعائر الله. .

اقتباس

يا كل مَن يشعر بفقره إلى الله وفاقته وحاجته إلى مولاه.. يا كل مهموم ومغموم.. يا كل مريض ومبتلى.. يا كل خطّاء.. ويا كل مذنب ومسرف.. في عصر عرفة ساعةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها, فالزموا بيوت الله واتلوا كتاب الله وتفرغوا لدعاء الله ومناجاته وتذللوا بيت يديه.. إن لكم في عصر عرفة لدعوة مستجابة؛ فافزعوا إلى الله الخالق الرازق، وارفعوا إلى ربكم الشكوى،....

الخطبة الأولى:

الحمد لله على نعمائه والشكر له على أفضاله وآلائه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وصفاته وأسمائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة خلقه وسيد أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأوليائه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون وعظّموا شعائره، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32].

ها هي العشر توالي نفحاتها وخيراتها، وتفيح بعبير مآثرها وأجورها، وأيامها تمضي والناس فيها ما بين مؤثر للدنيا وزينتها محبّ للعاجلة تارك وراءه يومًا ثقيلاً، وآخرين مريدين للآخرة ساعين لها سعيها؛ فأولئك كان سعيهم مشكورًا.

أيام خالدة يعلو فيها صوت التكبير؛ تعظيمًا لله مستحق التعظيم، وإعلانًا بيقين لا يهتز ولا يزيغ بأن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير.

أيام العشر يمضي والصالحون من عباد الله يعمرونها ذكرًا وشكرًا وصيامًا وقيامًا وعبادة ومسارعة للخيرات، ونأيًا عن المعاصي ومواطن المنكرات. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الأنعام:90]، وأولئك هم أولو الألباب.

تمضي العشر بأنوارها، وسيأتي بعد أيام خير الأيام.. وهناك تعود بنا الذكريات. ها هو رسول المرحمة -صلى الله عليه وسلم- واقف وسط الجموع المحتشدة قد قرَّت عينه وهو يرى الأمة تشهد له في هذا الموقف بأنه قد بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة.

وفجأة تتسمر ناقة رسول الله في مكانها وينخفض رأسها، ثم تبرك وينزل منها الرسول المصطفى، ويتنزل الوحي برسالة من السماء فتشرئب الأعناق، وتحدق الأبصار، ثم سري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد علا البِشْر محياه ونزل الوحي من السماء (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].

وقبل الغروب يصدر أمر نبوي لبلال بأن يَستنصت الناس؛ فأنصتت تلك الجموع للمكرمة النبوية من رب الأرض والسماء: "يا أيها الناس أتاني جبريل آنِفًا فأقرأني السلام من ربِّي وقال: بشِّر أهلَ الموقف والمشعر أنَّ الله قد غفَر لهم، وتحمَّل عنهم التَّبِعات"، فقال عمر: يا رسول الله، هذه لنا خاصَّة؟ فقال: "بل لكم ولِمَن بعدَكم إلى يوم القيامة"، فقال الفاروق: "كثُر خيرُ الله"؛ ذاك يوم عرفة يوم العتق والمغفرة والمباهاة من الملك الجبار.

إننا نترقب يومًا ترسم فيها معالم الإيمان والأخوة على صعيد عرفات.. إنها اللحظات التي يصبح الشيطان فيها مدحورًا مثبورًا.

أيام وتتجمع جموع الحجيج على ثرى عرفات؛ حيث تتجلى أنصع معالم عالمية الإسلام وعظمة هذا الدين.. اللباس واحد، والهدف واحد، والمكان واحد، والمعبود رب واحد لا شريك له. هناك تسقط كل الفوارق الطبقية والنعرات القبلية والمقاييس البشرية، ويبقى شعار واحد (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13]، وتبقى راية واحدة عنوانها "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".

في عرفات تختلط العبارات بالعَبَرات، ويكثر الدعاء والتضرع إلى رب الأرض والسماء، وخير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قاله نبينا والمرسلون: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".

في عرفات تُسكَب العَبَرات، وتُقَال العثرات، وتَنزل الرحمات، وتضج الأصوات بالدعوات، وتختلط دموع المذنبين مع عبرات التائبين.. هناك تُرفع إلى الخالق الشكوى وهناك تُرسم أجمل صور التقوى.

وإذا كان حجاج بيت الله يتعرضون لرحمات الله في صعيد عرفات في ذلك اليوم العظيم المبارك؛ حيث يقفون مواقف إيمانية خالدة.. فيا أيها المقيمون لا تحزنوا ولا تأسوا على ما فاتكم؛ فإن فضل الله عظيم وثوابه جزيل ورحمته وسعت كل شيء.

اعلموا أن مدار الأمور على النيات والمقاصد؛ فكم تارك للحج احتسابًا يعطيه الله أجر من حج واعتمر، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- للمجاهدين في تبوك: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم العذر".

فيا مَن لم يدرك الحج وقلبه يخفق شوقًا إلى البيت العتيق.. أبشروا! إن لكم ما نويتم، ولن يضيع الله أجركم، ومن سأل الله الشهادة بصدق كُتِبَ من الشهداء وإن مات على فراشه، ومَن هَمَّ بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة.

وإن فاتكم الحج فأمامكم أبواب من الخير مشرعة .. صدقات وصلوات ودعوات وأذكار وتكبير وتهليل، والأضحية لكم فيها بكل شعرة حسنة وصيام عرفة يكفّر السنة التي قبله والتي بعده، وكم من قاعد فاق منازل الحجاج!، والإنسان يدرك بنيته ومقصده ما لا يدركه بعمله، وإن الله بكم لرؤوف رحيم.

يا معشر المسلمين: يا كل مَن يشعر بفقره إلى الله وفاقته وحاجته إلى مولاه.. يا كل مهموم ومغموم.. يا كل مريض ومبتلى.. يا كل خطّاء.. ويا كل مذنب ومسرف.. في عصر عرفة ساعةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها, فالزموا بيوت الله واتلوا كتاب الله وتفرغوا لدعاء الله ومناجاته وتذللوا بيت يديه..

إن لكم في عصر عرفة لدعوة مستجابة؛ فافزعوا إلى الله الخالق الرازق، وارفعوا إلى ربكم الشكوى، والجأوا إلى من يعلم السر والنجوى وتضرعوا إلى من يكشف البلوى.. توجهوا إلى الله وأنتم تعيشون لحظات الصفاء وأنتم أقرب ما تكونون إلى الله، وادعوه لأنفسكم وأولادكم ووالديكم وأهليكم ولأمتكم بأن يرفع عنها البلاء ويكف عنها كيد الأعداء ويحقق لها النصر على الخصوم الألداء.

يا كل مذنب ومقصر وكلنا كذلك.. لنجعل من هذه الأيام فرصة طيبة لإعلان عهد الصلح مع الله في هذه الأجواء الإيمانية الصافية وللتوبة عما مضى والندم على ما فات وعقد العزم على المضي في الطريق الذي يرضي ربنا.

فهل يا ترى تنشرح الصدور لمشاهد المؤمنين وهي تعمر بيت الله بالذكر والقرآن وتلهج ألسنتهم بالدعاء والتضرع وسؤال رب العالمين.. هذا هو المرتجى، والمحروم مَن حُرم طاعة الله وتخاذل عن استغلال مِنَح الله وعطاياه.

وفَّقني الله وإياكم لمرضاته وهدانا لسبيل جناته..

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فحينما يمضي يوم عرفة وتنقضي ليلة مزدلفة يحل على المسلمين يوم الحج الأكبر أعظم الأيام عند الله، وفيه يستقر الحجاج في منى يرمون الجمار، ويقضون تفثهم ويطوفون بالبيت العتيق، والمقيمون يتقربون على الله بذبح أضاحيهم يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانًا.

والأضحية من شعائر الله فعَظِّموا شعيرته، وكلوا منها واهدوا وأطعموا البائس الفقير، وتذكروا حين ذبحها قصة التضحية والفداء والتسليم لرب الأرض والسماء والتي سطَّرها الخليل وابنه -عليهما السلام- ليرسما للبشرية معنى الإسلام والتسليم والخضوع لرب العالمين.

عظِّموا شعيرة الأضحية، ولا تجعلوا منها مادة للسخرية والتندر والنكت والطرائف والعبث والتصوير (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]، ثم تأتي أيام التشريق وهي أيام أكل وشرب وذكر لله -تعالى-، ومعها أهمس في أسماعكم وأبث إلى قلوبكم هذه الخاطرة.

أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله -عز وجل- بهذا صح الحديث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.

الذكر يا عباد الله في الإسلام ذو دائرة واسعة لا تُحدّ مجالاتها. في ميادين عريضة من القول والعمل والفكر والاعتقاد.

الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح والمساء في المسجد أو في المحراب لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه يشعر بضعفه البشري فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه. وفي هذا يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: "كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله -تعالى-".

المسلم الذاكر يصحو وينام ويقوم ويقعد ويغدو ويروح وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار وتنفس الصبح وغسق الليل وحركات الأكوان وجريان الأفلاك كل ذلك بقدرة الله وأقداره (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:191].

أيها المسلمون: ومما يُتأكد في مثل هذه الأيام الفاضلة: بذل الصدقات في سبيل الله. وكلما أكثر العبد من الصدقات وسارع إلى البذل والإنفاق كان ذلك تطهيرًا لنفسه وماله ومضاعفة لأجره عند الله -سبحانه-.

واعلموا أن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم.

اللهم صَلِّ وسَلِّم..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي