وقد أرشَدَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لِبَعضِ وُجوهِ الطَّاعاتِ, التي يَتصَدَّقُ بها الإنسانُ عَن مَفاصِلِه، فذَكَرَ أنَّ العَدْلَ بيْنَ اثنَيْنِ -صُلْحًا أو حُكمًا- يَكونُ صَدَقةً, ومنها: أنْ يُعينَ أخاه على رُكوبِ دابَّتِه وغَيرِها مِن وَسائِلِ النَّقلِ, إنْ لم يَستَطِعِ الرُّكوبَ بنَفْسِه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله رب العالمين، الذي أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, جمع على الخير قلوب المؤمنين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, أعظم الناس خلقا، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمدا وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله: أخرج البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ, كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ, وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ, فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا, أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ, وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ, وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ, وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ".
وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-, أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ, فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ, وَحَمِدَ اللهَ, وَهَلَّلَ اللهَ, وَسَبَّحَ اللهَ, وَاسْتَغْفَرَ اللهَ, وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ, أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ, وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ, عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ السُّلَامَى؛ فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ"(أخرجه مسلم).
عباد الله: يَذكُرُ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه على كُلِّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ صَدَقةٌ، والسُّلامَى: هي المَفاصِلُ، فكُلُّ مَفْصِلٍ مِن مَفاصِلِ الإنسانِ عليه صَدَقةٌ للهِ -تعالَى-، مِن فِعلِ الطَّاعةِ والخَيرِ كُلَّ يَومٍ، وهذه الصَّدَقةُ تَكونُ بتَحَرُّكِها في الطَّاعةِ، واشتِغالِها بالعِبادةِ، فتَركيبُ هذه العِظامِ ومَفاصِلِها مِن أعظَمِ نِعَمِ اللهِ على عَبْدِه، فيَحتاجُ كُلُّ عَظمٍ منها إلى صَدَقةٍ يَتصَدَّقُ بها ابنُ آدَمَ عنه؛ لِيَكونَ ذلك شاكرًا لله على هذه النِّعم، ويَكفي في شُكرِ هذه النِّعَمِ أنْ يَأتيَ بالواجِباتِ، ويَجتَنِبَ المُحَرَّماتِ.
عباد الله: وقد أرشَدَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لِبَعضِ وُجوهِ الطَّاعاتِ, التي يَتصَدَّقُ بها الإنسانُ عَن مَفاصِلِه، فذَكَرَ أنَّ العَدْلَ بيْنَ اثنَيْنِ -صُلْحًا أو حُكمًا- يَكونُ صَدَقةً.
ومنها: أنْ يُعينَ أخاه على رُكوبِ دابَّتِه وغَيرِها مِن وَسائِلِ النَّقلِ, إنْ لم يَستَطِعِ الرُّكوبَ بنَفْسِه، أو يُعينَه بوَضعِ مَتاعِه عليها، فتلك صَدَقةٌ.
ومِنَ الصَّدَقاتِ أيضًا في الحديث: الكَلِمةُ الطَّيِّبةُ، سَواءٌ كانت طَيِّبةً في حَقِّ اللهِ -تعالَى-؛ كالتَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّهليلِ، أو في حَقِّ النَّاسِ؛ كحُسنِ الخُلُقِ, فإنَّها صَدَقةٌ.
ومنها أيضًا: كُلُّ خُطوةٍ يَمشيها العَبدُ إلى الصَّلاةِ، سواءٌ بَعُدَتِ المَسافةُ أو قَصُرتْ.
ومِنَ الصَّدَقاتِ: مَحوُ الأذى وإزالتُه عنِ الطَّريقِ، وهو كُلُّ ما يُؤذي المارَّةَ، فإذا أُميطَ عن طَريقِهم فإنَّه صَدَقةٌ.
عباد الله: وفي حَديثِ مُسلِمٍ الذي يَرويه أبو ذَرٍّ -رَضيَ اللهُ عنه- قال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "ويُجزِئُ مِن ذلك رَكعَتانِ يَركَعُهما مِنَ الضُّحى"؛ أي: يَكفي مِمَّا وَجَبَ على المفاصل مِنَ الصَّدَقاتِ صَلاةُ الضُّحَى، رَكعَتانِ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ عَمَلٌ بجَميعِ أعضاءِ البَدَنِ، وتَشمَلُ جَميعَ ما ذُكِرَ مِنَ الصَّدَقاتِ وغَيرِها.
ومن أعظم الصدقات: أداء حقوق الأخوة بين المسلمين فحق المسلم على المسلم: رَدُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس وغير ذلك.
عباد الله: إن هذه الأعمال جميعاً التي سمعتم, كل ذلك في الأعمال التي يزاولها الإنسان بنفسه، يُكتب له فيها أجر يَجِدْه في صحيفة حسناته يوم القيامة.
عباد الله: وهناك أعمال يكون الأجر جارياً مُستمرًّا, ما ينقطع بعد الممات, وهي الصدقات الجارية؛ فعن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ, وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ, وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ, أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ, أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ, أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ, أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ, يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ"(حسنه الألباني في صحيح ابن ماجه), والصدقة الجارية: هي التي يستمر ثوابها بعد وفاة الإنسان, فهذه أعمال أُجُورُها لا تنقطع؛ ولذلك سميت بالصدقات الجارية.
أقول ما قد سمعتم, وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، أمر بالمسارعة إلى الخيرات، ومُبَادرة الوقت قبل الفَوَات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والكرامات، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: لقد أمر الله -سبحانه- بالإحسان في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[النحل: 90], وقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ)[الزمر: 10], وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)[الإسراء: 7].
عباد الله: يجب علينا أن نُحْسِن إلى الناس وأن نَنْفَعَهُم؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلم"(صححه الألباني).
وأفضَل النَّاسِ مَا بين الورَىٰ رجلٌ *** تُقضَىٰ علىٰ يدهِ للنَّاسِ حَاجاتُ
واعلموا أن الله -عز وجل- أثنى على أهل الخير وأهل المعروف من عباده؛ فقال -سبحانه-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].
عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي