إنهم يفِرُّون من المخاوف، ويهربون من الأخطار، ليحققوا النجاة. وليس الحريقُ الضخمُ هو الخطرُ الوحيدُ الذي يمكن أن يتعرّضَ له البشر، فهناك أخطارٌ كثيرةٌ تحدِّقُ بالإنسان، فهناك خطرُ الغرقِ، وخطرُ الهدمِ، وهناك خطرُ الشهواتِ، وخطرُ الشبهاتِ، ثم هناك خطرُ أهوالِ القيامة، ومواقفِ الحشرِ والحسابِ والصراطِ ثم الخطرُ الأكبرُ خطرُ النار. واليومَ...
أما بعد: غايةٌ يسعى لتحقيقها كلُّ البشر، ومطلبٌ ملحٌّ تبتغيه كل الأنفس: هل رأيتَ يوماً حريقاً ضخماً انتشر في مكان مأهول؟! يا تُرى أخبرني ما هو حالُ الناسِ حينَها؟! هل شعرتَ بخَفَقَان قلوبِهم، وزلزلةِ نفوسِهم؟! هل رأيتَ كيفَ يدفعُهم الحريقُ إلى الفرارِ والهربِ لا يلوون على أحدٍ، ولا يلتفتون إلى أحدٍ؟! هل رأيتَ كيف يتركونَ أغراضَهم وأموالهَم وتجاراتِهم وكلَّ ما يملكون؟! يا ترى ماذا يطلبون؟ وأي شيء يريدون؟
إنهم يفِرُّون من المخاوف، ويهربون من الأخطار، ليحققوا النجاة.
وليس الحريقُ الضخمُ هو الخطرُ الوحيدُ الذي يمكن أن يتعرّضَ له البشر، فهناك أخطارٌ كثيرةٌ تحدِّقُ بالإنسان، فهناك خطرُ الغرقِ، وخطرُ الهدمِ، وهناك خطرُ الشهواتِ، وخطرُ الشبهاتِ، ثم هناك خطرُ أهوالِ القيامة، ومواقفِ الحشرِ والحسابِ والصراطِ ثم الخطرُ الأكبرُ خطرُ النار.
والعاقل هو الذي يسلك سبيلَ النجاةِ من كلِّ تلك الأخطار، سواءً كانت أخطارَ الدنيا أم أخطارَ الآخرة.
واليومَ نقفُ مع بعضِ المعالمِ في النجاة، ونستلهمُها من أحدِ النماذجِ التي نجحتْ في تحقيقِ النجاة، وسُطِّر بذلك في التاريخ، ليكون عبرةً للمعتبرين، ودرساً للمتأملين؛ ففي مثلِ يوم العاشرِ من محرمٍ قبل أكثرَ من ثلاثةِ آلافِ عامٍ نجى اللهُ موسى وقومَه من بطشِ فرعونَ وجنودِه، فكان هذا اليومَ هو يومُ ذكرى للنصرِ، والنجاةِ من الظالمين، ويومُ شكرٍ لرب العالمين، فعن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أنَّ النَّبيَّ -ﷺ- لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقالوا: هذا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وهو يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فيه مُوسَى، وأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقالَ: "أَنَا أَوْلَى بمُوسَى منهمْ" فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ".
وبين يدي هذا اليومِ الذي سيقبلُ علينا بعد أيام تعالوا نقِف مع بعضِ معالم طريقِ النجاةِ الذي سلكه موسى ومن آمن معه حتى منّ اللهُ عليهم بذلك: المعلم الأول: معلم التوحيدِ والتوجهِ للخالقِ، وابتغاءِ رضاه.
ذلك المعلمُ كانَ معلماً حاضراً في جلِّ مشاهدِ القصة، ولكنه تجلَّى في موقفِ السحرةِ، الذين عرفوا الحقَّ فاتبعوه، ورأوا طريقَ النجاةِ فسلكوه!
فها هو يحينُ موعدُ التحدي، ويستعدُّ موسى بعصاه المعجزة، ويستعدُّ السحرةُ بسحرِهم وباطلِهم؟
كانوا في البدايةِ يطلبون رضا فرعونَ وأجرَه: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)[الشعراء: 41]، وحين ألْقَوْا حبالَهم كانوا به يعتزّون ويستنصرون: (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ)[الشعراء: 44].
وعندما سطعَ في وجوهِهم نورُ الحقِّ فأبصروه، وما تعامَوْا عنه ولا تغافَلُوه، اختلفت النظرةُ، وتغير المسارُ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)[الأعراف: 117-122] اتجهتِ القلوبُ إلى خالقِها، وبدَّدَ نورُ الحقِّ ظلماتِها، وأبصرت الحقيقة، فكان اللهُ هو اللهُ القويُّ الغالبُ، وفرعونُ هو فرعونُ الضعيفُ المغلوبُ.
أما فرعونُ فما زال مخدوعاً متعامياً عن الحقيقةِ، ظنّ أنه سيستطيعُ بقوةِ التهديدِ والوعيدِ أن يحرفَ قلوباً تعلقت بخالقِها، وأن يطفئَ نوراً يُستمدُّ من بارئِها: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)[طه: 71] هكذا يقولها بكل ثقة وغرور: أنا شديدُ العذابِ، الباقي، لا ربُّكم أيها السحرة.
أما السحرةُ سابقاً، الموحدون حالياً، فكان ردُّهم العجيبُ، الذي يتعالى على كلِّ الدنيا وزينتِها وغرورِها: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 72-73] حين عَظُمَ اللهُ في نفوسِهم، هانَ كلُّ شيءٍ سواه في عيونِهم، وبذلك تحققتِ لهم النجاةَ الأبديةَ، والسعادةَ السرمدية: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)[طه: 76] لقد نجاهم التوحيدُ من عذابِ النار، نجوا بالخالق لا بالمخلوق!
هذا المعلمُ يتكررُ مع معلمٍ آخر، وهو: معلمُ الدعاءِ والالتجاء، في مشهدٍ آخرٍ من مشاهدِ القصة، مشهدُ امرأةِ فرعونَ وهي تعيش في بيتِ الطاغية، يمرُّ عليها صباحَ مساءَ، وتطّلِعُ على بطشِه وجبروتِه في كل عشيٍّ وغداةٍ، وهو بملكه يحيطُ بها من كلِّ جانب، فهي تحت سلطانِه وفي حياضِه وبين عينيه، ولكنَّ ذلكَ لم يكنْ مانعاً؛ لأن يصلَ إليها نورُ التوحيد، فتنعمَ به في وسطِ جحيمِ فرعون وظلماتِه.
ها هي ترتقي بطلباتها، وترتفع بأمنياتها، عن قصور فرعون ومملكتِه إلى رضوانِ الله وقربِه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11].
لقد طرقت أبوابَ الدعاءِ لتسلكَ سبيلَ النجاةِ، لقد كان كلُّ من حولهَا يرتعُ في الضلالِ والكفرِ والإجرام، ولكنها تمسكت بحبل الله، ولجأت إليه، فجاءها المددُ، وكان لها الرفعةُ والكمالُ، قال ﷺ: "كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ".
ومن معالمِ النجاة أيضا: معلم الثقةِ بنصر الله، واليقينِ بوعده، وحسنِ الظنِّ به سبحانه، ويظهرَ ذلك المعلمُ، حين أمر اللهُ موسى بالخروجِ من مصرَ، والفرارِ من بطشِ فرعون وجندِه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ)[الشعراء: 52] يصل الخبرُ إلى فرعونَ فيُعِدُّ العِدّةَ، ويجهزُ الجيوش: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)[الشعراء: 53-56].
يشتد المسيرُ من بني إسرائيل، واللحاقُ من فرعونَ وجندِه، حتى وصلوا إلى ذلك البحر، البحرُ من أمامِهم، وجندُ فرعونَ من خلفِهم: (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء: 61] فنطق الكليم بما وهبَه ربُّه من إيمانٍ وثقةٍ بنصرِه: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62]، وحين كان اليقينُ كانت النجاةُ، وكان النصرُ والتمكين: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الشعراء: 63-68].
بارك الله لي ولكم...
أما بعد: ومن معالم النجاة: معلم الصبر والمصابرة؛ فأي بطشٍ؟! وأي كيدٍ؟! وأي مكرٍ؟! كان يفعلُه فرعونُ ببني إسرائيل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 4]، ظلوا على ذلك الحال سنينَ عديدة، عاشها بنو إسرائيل في العذابِ والاضطهاد، ولكنهم تزودوا بالصبر، وتحلَّوا بالثبات، وما بدلوا ولا كفروا، فكان النصرُ بعد الصبر، واليُسرُ بعد العُسر، والنجاءُ بعد البلاء: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137].
تلك هي بعضُ معالمِ النجاةِ التي من وقف عليها حريٌّ به أن يكونَ من أهل النجاة، الفائزين برضوانِ الله وكرامتِه في الدارين.
ولا ننسى أن نذكركم بصيامِ يوم عاشوراء، شكرا لله كما صامه موسى، وكما صامه محمدٌ -عليهما الصلاة والسلام-، وقد ورد فيه الفضل العظيم، قال ﷺ: "صِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ"، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -ﷺ- يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ"، وإن صام المرءُ يوما قبله أو يوما بعده فهو أفضل، ليحققَ بذلك مخالفةَ أهلِ الكتاب.
اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وجنبنا معصيتك وسخطك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي