علمتنا الهجرة

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. موقف المسلم من حب الوطن والدين .
  2. صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أعباء الدعوة في مكة .
  3. دروس وعبر من الهجرة النبوية .
  4. ماذا تعلمنا من الهجرة؟ .

اقتباس

علمتنا الهجرة أن الحياة أدوار، ولكل واحد دور يصلح به وفيه، وليس كل أحد يصلح لكل شيء، والعمل للدين صُوَر وأشكال فالصِّدِّيق نصره بماله وبدنه، وعلي نصره بفدائيته وتضحيته، وأسماء بتجهيز المؤونة، وعبدالله بن أبي بكر بالتضليل على المشركين، والإيجابية تعني أن تحمل همّ هذا الدين، وأن تستثمر ما وهبك الله من مواهب وقُدُرات دون النظر إلى ما عند الآخرين، وإذا كانت إيجابية أبي هريرة برواية الحديث؛ فإيجابية خالد بقتال أعداء الله، وحسان بالذَّبِّ بلسانه..

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بجهاده وجهده عز الدين وقام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً.

أما بعد: فيا معشر المسلمين: اتقوا الله ربكم، واعتزوا بدينكم، ومن يتق الله يجعل له فرقانًا.

أما المكان فعلى مشارف مكة، وأما الزمان فيوم الهجرة، أما الموقف فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلقي نظرة الوداع على مراتع الصبا وموطن المولد والنشأة قائلاً: "والله إنك لمن أحب البلاد إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".

إنها كلمات عبَّر فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها عمّا تكنّه نفسه لمكة من حبّ، وما يربطه بها من وشائج؛ فهي البلد الحرام، وهي الموطن الذي نشأ فيه وترعرع وتشده إليها ذكريات وذكريات.

كلمات تُعلّمنا أن حبّ الوطن أمر فطري، ولا يُلام عليه الإنسان، وحنين الفتى لأول منزل، لكن علمنا الموقف أن هناك حبًّا أسمى وأغلى وأولى .. إنه حب الله ودينه، فحينما يتعارض حب الوطن مع العقيدة والدين، فحب الوطن يتلاشى ويبقى الحب لله ولدينه.

كلمات قالها -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاثة عشر عامًا قضاها في مكة، يدعو إلى الله، ويبلّغ الرسالة ويقرر العقيدة.. ثلاثة عشر عامًا عانى خلالها مع أصحابه ما عانوا من أذى بدنيّ ونفسيّ.. خلالها فَقَدَ أهمّ أنصاره.. زوجته خديجة وعمه أبا طالب.. حُوصِرَ في الشِّعْب مع أصحابه ثلاث سنين، أكلوا خلالها أوراق الشجر.. أُوذِيَ في جسده فخُنِقَ حتى كاد يموت، وأُلقي سلا الجزور على ظهره، وأُوذِيَ في عقيدته وعقله واتُّهِمَ بالسحر والجنون، وسخر منه وناله من الأذى ما ناله.

ثلاثة عشر عامًا أعلن فيها المشركون حربًا صريحة على التوحيد وأهله، وصبُّوا عليهم ألوانًا من الأذى والضرر من سبٍّ وشتم وتعذيب وتنكيل، وإضرار بالمال والبدن والأهل والولد، حتى وصل الأمر إلى قتل بعض المؤمنين والمؤمنات في مشاهد تُعلّمنا أن أعداء الله لا يرقبون في مؤمن إلَّا ولا ذمة، وأنهم لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وودوا لو تكفرون.

ثلاثة عشر عامًا عرضت على النبي المصطفى المغريات، وقُدِّمت له العروض والإغراءات، لكنه صاحب مبدأ، همّته تسمو على الدنيا ودناءتها، وترتقي لتكون لإرضاء الله ونشر عقيدته.. تعلمنا أن النصر ليس فقط تغلبًا على عدوّ، ولا قهرًا لخصم؛ بل ثباتك على الحق نصر، وتمسكك بمبادئك نصر، فمصعب لم ير تمكينًا، وحمزة لم يَرَ غلبة للدين، وقد انتصروا بثباتهم على المبدأ حتى ماتوا، وإمامهم في ذلك نبيهم -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "يَا عَمِّ! وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ".

ثلاثة عشر عامًا يدعو فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الله، فما آمن معه إلا قليل، لكنهم قلة ثابتة ذات عقيدة راسخة، وبالقلة الثابتة لا بالكثرة الغثائية المتذبذبة ينتصر الدين وتعلو رايته.

وبعد تلك السنين التي عانى فيها المصطفى ما عانى يقرر الهجرة إلى المدينة؛ ليعلّمنا أن أرض الله واسعة، وأنه إذا ضاقت على المسلم سبيل فثمة سُبُل أخرى، وإذا تعذر للدعوة طريق جعل الله للمصلحين طرقًا أخرى فلا عذر لمعتذر.

يخبر -صلى الله عليه وسلم- صاحبه أبا بكر بخبر الهجرة فيناشده الصحبة، فيقول: "نعم"؛ فيبكي أبو بكر فرحًا، وتقول عائشة: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي"؛ ليعلمنا معنى الفرح الحقيقي بفضل الله ورحمته، لا فرح التافهين بالسخف والفسوق والتفاهات.

يخرج -صلى الله عليه وسلم- ليلاً، ويختفي في الغار ثلاثًا، ويُغيّر طريقه ليعلمنا أن التوكل على الله لا يعني ترك الأسباب، بل إن فعلها هو من تمام التوكل، وفي شرعنا "اعقلها وتوكل".

وتمضي الهجرة بأحداثها وتفاصيلها ومواقفها لتعلمنا دروسًا وعبرًا:

علمتنا الهجرة أن الإخلاص هو الأساس، فمن رامَ من الدعوة شهرةً أو مغنمًا أو مجدًا؛ فقد أخطأ الوجهة، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- لو أراد ذلك ما ترك وطنًا ولا فارق دارًا؛ فاجعل الإخلاص شعارك ودثارك تَأْتِكَ الدنيا والآخرة.

علمتنا الهجرة: أن حفظ الله لدعاة دينه مؤكّد لا شك فيه، لكن الحفظ ليس فقط في الأنفس والأبدان؛، بل منه وأعلاه حفظ الدين، وما هاجر أحد لله إلا حفظ الله له دينه، وسل صهيبًا وبلالاً وعمارًا وأبَا سلمة تجد الخبر اليقين.

علمتنا الهجرة: أن الثقة تظهر في مواطن الشدة، وها هو الصِّدِّيق يُسلّم لصاحبه الأكبر -صلى الله عليه وسلم- نفسه في رحلة تحفّها المخاطر، وكيف لا يثق فيه وهو الصادق المصدق؟! وما أروع رد الصديق حين سُئل: "مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟، فَيَقُولُ: "هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ".

علمتنا الهجرة: أن الخِيَرة دائمًا فيما اختاره الله لا بما تمنَّاه العبد، فقد يصرف الله عنك ما تتمناه؛ لأنه يريد لك أفضل مما تهواه، وقد أراد الصديق هجرة وحده، فأراد الله له صحبة لا مثيل لها، وعند الطبراني: كَانَ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "لَا تَعْجَلْ؛ لَعَلَّ اللهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا"، ولم يكن من العجب أن يبكي الصِّدِّيق بعدها فرحًا.

علمتنا الهجرة أن المسلم عزيز نفس يترفع عما في أيدي الآخرين، ولو كانوا أصدقاءه، وأن الصداقة لا تعني أن يَرْزَأ المسلمُ أخاه أو يُثْقِل عليه بسيف الحياء؛ فهذا الصِّدِّيق يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: "قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ"، فانظر رعاك الله كيف أخذها النبي بالثمن ولم يقبلها تبرعًا ولا تطوعًا؛ فقد قدّم الصِّدِّيق ما يكفي.

علمتنا الهجرة: أن الحياة أدوار، ولكل واحد دور يصلح به وفيه، وليس كل أحد يصلح لكل شيء، والعمل للدين صُوَر وأشكال فالصِّدِّيق نصره بماله وبدنه، وعلي نصره بفدائيته وتضحيته، وأسماء بتجهيز المؤونة، وعبدالله بن أبي بكر بالتضليل على المشركين، والإيجابية تعني أن تحمل همّ هذا الدين، وأن تستثمر ما وهبك الله من مواهب وقُدُرات دون النظر إلى ما عند الآخرين، وإذا كانت إيجابية أبي هريرة برواية الحديث؛ فإيجابية خالد بقتال أعداء الله، وحسان بالذَّبِّ بلسانه.. وجهد رجل نصر دين الله بدعائه ودعوته أعظم من تأثير آخر بماله أو بدنه.. فضع نفسك فيما تتقن وتحسن، لا ما تحب وترغب.

علمتنا الهجرة كما علمنا عاشوراء معنى اليقين الصادق والثقة بموعود الله وحُسن الظن بالله فموسى -عليه السلام- في مقابل قول المرجفين: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشعراء:61]، يقول في ثقة ويقين: (كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:62]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- في الغار يقول له الصِّدِّيق: "يا رسول الله! لو رأى أحد منهم موضع قدميه لرآنا"؛ فيقول سيد المتوكلين: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا"، وبهذا الإيمان الصادق وذاك اليقين تُنال الإمامة في الدين، وإن الله لمع المحسنين.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

أما بعد: فقد علمتنا الهجرة كيف تكون بعض البيوت متألقة في نصرة الدين والعمل له، تشتعل في جنباتها جذوة الغيرة والحماس للعمل لله ولدينه؛ فهذا بيت الصديق في الهجرة مثال فما أروعه من بيت!، فالأب للصحبة، والبنت للطعام، والولد للأخبار، وتلك بيوت لا تنهض إلا على أكتاف رجال عرفوا المسؤولية، وأدركوا معنى الولاية والقوامة واستشعروا أن كل راع مسؤول عن رعيته، وأن الله سائل كل راع عما استرعاه.

علمتنا الهجرة أن للقلوب أعمالاً وللجوارح أعمالاً، فللقلب عبادة التوكل والثقة والطمأنينة واليقين والحب والولاء.. وللجوارح دعاء وتضرع وخشوع وتذلل وجهاد وإقدام وعطاء، فلا تحرم نفسك من هذا وذاك.

علمتنا الهجرة أن من صبر ظفر، ومن سار على الدرب وصل، وأن النصر مع الصبر، فلا نصر لجازع متسرّع، ولا فوز لقانط متعجل، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لخباب وإخوته حين تعجلوا النصر: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".

علمتنا الهجرة أن المرأة شقيقة الرجل، فلا الرجل وحده يبني حضارة، ولا المرأة وحدها تصنع مجدًا، ولهذا لم تغب أسماء، ومن قبلها سمية ونُسَيبة عن مشاهد الهجرة وأحداثها. فما أعظم دور المرأة تقومَ بواجبها في المناسبات الملائمة، والظروف الموائمة، تقوم به وهي في حشمتها وحيائها وحجابها وبعدها عن مخالطة الرجال ومشابهتهم.

علمتنا الهجرة: أن الاعتدال قرين المسلم، فلا هو بالمبتذل الذليل حال ضعفه، ولا هو بالمتكبر المتغطرس حال انتصاره، وقد رأيناه -صلى الله عليه وسلم- حين أُخرج وحيدًا مهاجرًا معتزًّا بدينه ودعوته قائلاً كما عند أحمد: "عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"، وحين عاد بعد ثمانية أعوام في الفتح ما كان إلا متواضعًا شاكرًا.

وختامًا يا مسلمون: علمتنا الهجرة أننا أمة العزة والكرامة لا ترضى بِذُلّ ولا تقبل الدَّنيَّة في دينها، وأننا أمة لنا خصائصنا وميزاتنا؛ فأُمّتنا خير أمة، ونبينا أفضل رسول، وكتابنا أعظم كتاب؛ فلماذا يأبى بعض المنهزمين إلا أن يكون تابعًا لا متبوعًا، وذنبًا لا رأسًا؟!

كيف يهجر أقوام تأريخهم الهجري الذي يميزهم ليؤرخوا أحداثهم ومواعيدهم بتأريخ لا يمثل دينهم ولا تراثهم، وإنك لتعجب كيف سرى هذا الداء حتى عمَّ الحفاة العراة رعاء الشاء، وحتى بُلِيَ به مَن يتابعون تقلُّبات الطقس وأخبار الغيث؛ فأين تميزكم يا مسلمون؟! فالالتزام بالتأريخ الهجري دين وقربة وأصالة وعزة، ومحافظة على الهوية وارتباط بسيرة سيد البشر وبتأريخ المسلمين، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.

اللهم صلِّ وسَلِّم..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي