ومِن أقبحِ الغِيبةِ غِيبةُ ولاةِ الأمورِ من العلماءِ والأمراءِ، والذينَ يأمرونَ بالقسطِ من الناسِ, يَحُطُّونَ من أقدارهمْ، ويَنزعونَ الثقةَ بهم, يُحْيونَ العصبياتِ، ويَتهمونَ النيّاتِ، ويوزعونَ الاتهاماتِ, مجالسهمْ شرٌ، وصحبتهمْ ضُرٌ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد للهِ بارئِ البرياتِ، المطلعِ على الضمائرِ والنياتِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خاتمُ الأنبياءِ, فاللهم صلِ وسلم عليهِ، وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأتقياءِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -رحمكمُ اللهُ- واستعدُوا للرحيلِ؛ فقد جدَّ بكم، فالأجلُ فاجعٌ، والأملُ خادعٌ.
تأملْ أخي في اللهِ: أرأيتَ لو أنكَ على شاطئِ البحرِ، ورأيتَ صاحبَ صهريجِ الصرفِ الصحيِ وهو يُفرِّغُه وسطَ البحرِ، فهل تَرى أن البحرَ سيَتعكرُ؟! حتمًا لن يتعكرَ، ولو اجتمعتْ عَشرٌ بل ألفُ سيارةٍ, لكنْ ما ظنكُ بقطعةٍ صغيرةٍ قد تعكِّرُ ماءَ البحرِ؟! واسمعِ الآنَ لهذا الموقفِ العابرِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ, وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَت بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ"(سنن أبي داود والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح, وصححه الألباني في صحيح الترغيب).
يا اللهُ! كلمةٌ واحدةٌ عابرةٌ تجعلُ ماءَ البحرِ بمحيطاتهِ مُتعكرًا!, يالِلهِ ما أشدَّ انفلاتَ ألسنتِنا!, فاللهم رُحماكَ رُحماكَ؛ فإن ألسنَتنا أفسدتْنا، وكلماتِنا كَلَمَتْنا.
إنه اللسانُ؛ صغيرُ الجِرْمِ لكنه عظيمُ الجُرْم, إنها الغيبةُ؛ الفاكهةُ لكنها المسمومةُ، ومجالسُ أهلِها مشؤومةٌ، "فالمغتابُ مشؤومٌ على جلسائهِ؛ لأنهم إذا لم يُنكِروا عليه صارُوا شركاءَ له في الإثمِ، وإن لم يقولُوا شيئًا"(الضياء اللامع من الخطب الجوامع).
وتصورْ الغبْنَ الفاحشَ، والخسارةَ الفادحةَ على المغتابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حينَ يُعْطَى كِتَابَهُ مَنْشُورًا، فيَبْحَثُ عنْ حسَنَاتٍ كثيراتٍ عمِلَها، لكنَّه ما وَجَدَها!, فيقالُ لهُ: "مُحيَتْ عنكَ باغْتيابكَ النَّاسَ", وضِدُّه رجلٌ يَرَى في كِتَابهِ حَسَنَاتٍ لَمْ يَعْمَلْهَا فَيَقُولُ: "ربِّ لَمْ أَعْمَلْ هَذه الْحَسَنَاتِ"، فَيَقَالُ: "إِنَّما كُتِبَتْ باغْتياب النَّاسِ إِيَّاكَ", حقًا: إنه يومُ التغابنِ، فاخترْ لنفسِكَ أن تكونَ غابنًا أم مغبونًا.
ولقد كانتِ الغيبةُ عند الصحابةِ نادرةَ الوقوعِ، وإليكم الدليلَ من هذهِ القصةِ الصحيحةِ: يقولُ جَابِرٌ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟, هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ"(مسند أحمد وقد حسنه البيهقي وابن حجر، وصححه الضياء والهيتمي والألباني", فلمّا كانت الغيبةُ في عهدِهم قليلةً شُم لها ريحٌ، ولما كثرتْ في أزمانِنا لم نتبينْ رائحتَها المنتنةَ!.
فلنكنْ حراسًا يقظِينَ على ألسنتِنا أن تُضيِّعَ حسناتِنا، ولنقتدِ بمثلِ الإمامِ البخاريِ عليهِ -رحمةُ اللهِ- الذي يقولُ: "أَرْجُو أَنْ أَلقَى اللهَ وَلاَ يحَاسبُنِي أَنِّي اغتبتُ أَحَداً", والحافظُ ابنُ دقيقٍ -رحمهُ اللهُ- يقولُ: "ما تكلمتُ بكلمةٍ ولا فعلتُ فعلاً إِلاَّ أعددتُ لَهُ جواباً بَيْنَ يدَيِ اللهِ -تعالى-"(تاريخ بغداد).
أيها المؤمنونَ: ما ضابطُ الغيبةِ؟, ضابُطها ما قالَه رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟", قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"(صحيح مسلم), قالَ العلماءُ: "سواءٌ ذكرتَه باللفظِ أو بالإشارةِ والرمزِ".
وهلِ الغيبةُ تقعُ بالكتابةِ؟, الجوابُ: نعم, بل ربما المكتوبُ والمسجَّلُ ينتشرُ، فيكونُ أشرَّ.
أيُها المسلمونَ: ومِن أقبحِ الغِيبةِ غِيبةُ ولاةِ الأمورِ من العلماءِ والأمراءِ، والذينَ يأمرونَ بالقسطِ من الناسِ, يَحُطُّونَ من أقدارهمْ، ويَنزعونَ الثقةَ بهم, يُحْيونَ العصبياتِ، ويَتهمونَ النيّاتِ، ويوزعونَ الاتهاماتِ, مجالسهمْ شرٌ، وصحبتهمْ ضُرٌ, وقانا اللهُ شرَ ألسنتِنا، وحفظ علينا حسناتنا.
أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم.
أما بعد:
الحمد للهِ الذي هدانا، وصلى اللهُ وسلم على من للهُدى دعانا.
أما بعدُ: فإن قلتَ كيفَ الخلاصُ والتوبةُ من الغيبةِ؟.
فيُقالُ: منْ أرادَ كفارةَ الغيبةِ فعليهِ بالاستغفارِ لمن اغتابَه، وذِكرُه بمحاسنهِ التي فيه في المواطنِ التي اغتابَه فيها, وأما إعلامُه فإنه يُوغِرُ صدرَه، ولعله يُهيجُ عداوتَه.
وكثيرٌ من أهلِ الغِيبةِ إذا نُصِحوا قالوا: نحنُ لا نكذبُ عليه؛ بل نتكلمُ بما وقعَ منه!, لكن ألم يعلمُوا أنه قيلَ للنبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيتَ إن كانَ في أخي ما أقولُ؟, فقال: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ".
فيا مُغتابًا: إن وجدتَ في أخيكَ عَيبًا فالواجبُ عليكَ أن تنصحَه، لا أن تفضحَه, وإلا ففارِقْ ذلكَ المجلسَ إن تمكنتَ.
وتأملْ لو أن زميلَكَ سرقَ منكَ ألفَ ريالٍ؛ ألا تنهرُه وتهجرُه وتعتبرُه خائنًا؟, فما لكَ لا تبالي وأنتَ ترى آلافًا من الحسناتِ تُسرقُ منك؟!؛ (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات12]
فاللهم يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، يا واسعَ المغفرة: اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنأ، وطهر ألسنتنا، وأخرجنا من هذه الدنيا ولا أحد من خلقك يطلبنا بمظلمة, اللهم لك الحمدُ كالذي تقولُ وخيرًا مما نقولُ، اللهم وأعنتَنا على ذكرِك وشكرِك فسجدْنا لك وحدَك، وصمنا بعونك عاشوراء، فاللهم بفضلِك فاقبلنا، وكفِّر سيئاتنا في عامنا الآفل، واقبل توباتنا لعامنا القابل, وثبِّتنا وزِدنا من بركاتِ عمرِنا، ولا تنقُصنا من أجرنا, ربَّنا أوزعنا أن نشكرَ نعمتَك التي أنعمتَ علينا وعلى والدَينا وأن نعملَ صالحًا ترضاه وأدخلنا برحمتِك في عبادِك الصالحينَ.
اللهم ارزقنا برَّهما أحياءً وأمواتًا, اللهم وفقْ مليكَنا ووليَ عهدِه، وسددْهم في أقوالِهم وأعمالِهم، واجعلهُم وجنودَنا في ضمانِك وأمانِك وإحسانِك.
اللهم صلِ وسلمْ على نبيِنا محمدٍ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي