إن الناصحين المصلحين المشفقين, هم أقل الناس وقوعاً في أعراض العباد، وهم أكثر الناس بذلاً للنصح لهم, إن المصلحَ الناصحَ هو مَنْ أَتى النصيحةَ من بابها، فأَبدى نُصْحَهُ للمنصوحِ، وأَنْكَرَ المنكرَ على من ارتكبه, ولَمْ يَجترئ على الخوضِ في أعراضِ الآخرينَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون: صلاح النفوس وتزكيتها, مطلبٌ عالٍ، ومبتغىً غالٍ، ومسلكٌ نفيس, سَارَ فيهِ مَنْ إلى العلياءِ يَطْمَحُ، وَعَن الدَّنَايَا يَتَرَفَّعُ, وإلى كلِّ كَرِيْمَةٍ يَسْعى وَيَـجِدّ.
صلاحُ النفوسِ لزومُ التقوى مَعَ محاسبةِ النَّفُسِ، والانشغالُ بتقويمِ الذاتِ مع الكفِّ عن عُيُوبِ الآخرين, وهو مِنْ حُسْنِ الإسلامِ، ومِنْ تمامِ الدِّيْنِ، وفي الحديثِ: "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ"(رواه الترمذي).
وإذا أرادَ اللهُ بِعبدٍ خيراً أراهُ عُيوبَ نفسهِ, وأعانَهُ على إِصْلاحِها، وَبَصَّرَهُ بِدُرُوْبِ الفَضِيْلَةِ وَيَسَّرَ له سُلُوكَها, وَمَنْ كانت هذه حَالُهُ فلا تَراهُ إلا بِنَفْسِهِ مُنْشَغِلاً، وَعَنِ عُيُوبِ الناسِ مُتَشَاغِلاً, يَكْسِبُ لنفسهِ كلَّ فضيلةٍ، وينفي عنها كلَّ رذيلة، يطلبُ علماً وينشرُ فضلاً، يحفظ حقاً ويكف أذى، يصل رحماً ويبر أماً وأبا، خَيْرُهُ حاضرٌ وشرُّهُ غَائِبٌ، يُؤَدِّيْ حُقُوقَ اللهِ كاملةً، وحُقُوقَ العبادِ لَدَيْهِ غَيْرَ مَنْقُوْصَة, سريعُ التوبةِ، رَقِيْقُ القلبِ، طيبُ النفسِ لَيِّنُ الـمَعْشَرِ، حَسَنُ الاعتذارِ, يُـحِبُّ للناسِ الخيرَ، ويَكْرَهُ لهم الأذى، لا يَـحْسِدُ، لا يَغِلُّ، لا يـَمْكُرُ، لا يـَخْدَعُ, يَغْمُرُ الناسَ بإحسانه، ويَصِلُهُم بِبِرِّهِ وإكرامِه، وأَيْمُ اللهِ مَا خَابَ مَنْ هذا شَأنُه!.
وإذا كُتبَ على العبدِ الشقاءُ, تَعَامَى عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ, وأَعْرَضَ عَنْ إِصْلاحِ ذَاتِهِ، وانْشَغَلَ بالبَحْثِ عَن عُيُوبِ الآخرين, يَنْتَقِدُ هذا ويَذُمُ ذاك، ويغتابُ هذا وَيَبْهَتُ ذاك، يَفْرِيْ في أعراضِ المسلمينَ، بِحُجَةِ تَقْيِمِهمْ وتَقْويْمِهِم، وتمييزِ غَثِّهِمْ وَسَمِيْنِهِم، في جَرْحٍ وَتَعْدِيْلٍ، وتَصْوِيْبٍ وتضليلٍ، وتأييدٍ وتخذيل, يَخُوضُ في المقاصِدِ ويَتَهِمُ النوايا، ويُفَسِّرُ الضمائرَ ويمشي بالظنون, في مَسْلَكٍ مِن الجهالةِ لا نهايةَ له، وفي مُنْحَدَرٍ مِن الخسارةِ لا قاعَ له.
انهماكٌ في تتبعِ مشارِبِ الناسِ واستقصاءٌ لحركاتِهِم، معَ غفلةٍ عن إصلاحِ النفسِ وتبريرٍ لهفواتِها, انهيارٌ في الفضيلةِ، وانتكاسٌ في العقل، وضلالٌ في التفكير؛ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة: 44].
عباد الله: إن العبدَ إذا أَتَى ما أُمرَ بِهِ، وَكَفَّ عَما نُهيَ عَنْهُ، وَسَعَى في إِصْلاحِ خَاصَةِ نَفْسِهِ، وَكَفَّ يَدَهُ وَلِسَانَهُ عن تَتَبُّعِ عثراتِ الآخرين، فإنه قد بلغ من الكمال مبلغاً كريماً، ولن تستقيم النفسُ على هذه الفضيلة، إلا بمراقبة لله دائمة، وبعلمٍ بأن الله لن يحاسبَ المرءَ إلا عن عَمَلِه؛ (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)[سبأ: 25، 26], قالت رابعة العدوية -رحمها الله-: "إذا نصح الإنسانُ للهِ أَطْلَعَهُ اللهُ -تعالى- على مَسَاوِئِ عَمَلِهِ؛ فَتَشَاغَلَ بها عَنْ ذِكْرِ مَسَاوِئِ خَلْقِه".
بَعَثَ أحدُ خلفاءِ بني أُمَيَّةَ إلى الأعمشِ يقولُ له: "اكْتُبْ لي مناقبَ عثمانَ ومَسَاوِئَ عليٍّ -رضي الله عنهما-، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم, أما بعد: يا أميرَ المؤمنين! فلو كانت لعثمانَ مَنَاقِبُ أهلِ الأرضِ ما نَفَعَتْكَ، ولو كانتْ لعليٍ مساوئُ أهلِ الأرضِ ما ضَرَّتْكَ؛ فعليك بِـخُوَيصَةِ نَفْسِكَ، والسلام".
عباد الله: وإن من صلاحِ النفسِ وإِصْلاحِها، أَنْ يَكُوْنَ العبدُ آمراً بالمعروفِ نَاهِياً عَنِ المنكر، ناصحاً للخلقِ مشفقاً عليهم، مُـحباً الخير لهم، محذراً إياهُم من تَنَكُّبِ الصراطِ المستقيم، فإن أجابوا؛ فقد غنِمَ وغنموا؛ وإن تولوا؛ فقد برئَ وأثموا، ولا يضره بعد ذلك ضلال من ضل إذا هو استقام؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[المائدة: 105].
وحين يكون الجهلُ للهوى قرينُ, تَخْتَلُّ الموازينُ, فتجري الشماتةُ مجرى الشفقةِ، وتجري الفضيحةُ مجرى النصيحةِ، وتَجْرِيْ الغيبةُ مَجْرى إنكارِ المُنْكَر, وَشَتَّانَ بينَ شامتٍ ومشفق، وبين ناصحٍ وفاضح، وبين مغتابٍ ومُصلح!.
إن الناصحين المصلحين المشفقين, هم أقل الناس وقوعاً في أعراض العباد، وهم أكثر الناس بذلاً للنصح لهم, إن المصلحَ الناصحَ هو مَنْ أَتى النصيحةَ من بابها، فأَبدى نُصْحَهُ للمنصوحِ، وأَنْكَرَ المنكرَ على من ارتكبه, ولَمْ يَجترئ على الخوضِ في أعراضِ الآخرينَ، والوقوعِ في أعراضِهِم, قال ابنُ القيم -رحمَه الله-: "وَمِنَ العَجَبِ أنَّ الإنْسانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ والِاحْتِرازُ مِن أكْلِ الحَرامِ, والظُّلْمِ والزِّنى والسَّرِقَةِ وشُرْبِ الخَمْرِ، ومِنَ النَّظَرِ المُحَرَّمِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ويَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِن حَرَكَةِ لِسانِهِ، حَتّى تَرى الرَّجُلَ يُشارُ إلَيْهِ بِالدِّينِ والزُّهْدِ والعِبادَةِ، وهو يَتَكَلَّمُ بِالكَلِماتِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَها بالًا، يَنْزِلُ بِالكَلِمَةِ الواحِدَةِ مِنها أبْعَدَ مِمّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ!، وكَمْ تَرى مِن رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الفَواحِشِ والظُّلْمِ، ولِسانُهُ يَفْرِي في أعْراضِ الأحْياءِ والأمْواتِ، ولا يُبالِي ما يَقُولُ!"؛ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 17، 18], (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار: 10 - 12].
قلت ما سمعتم, وأستغفر الله؛ إنه غفور رحيم
الحمد لله رب العالمين؛ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2], وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[البقرة: 215], وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128], صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وآصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-, وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: يعيش المرء في عناء, إذا ما تراكمت عليه الديون، ويقاسي المرءُ مرارةَ الضيقِ, إذا ما تكاثر حوله الطالبون، وحينما يَنْفَكُّ المرءُ من قيودِ المطالبِ، ويحيا حياةً لا ينازعُهُ فيها أحدٌ، ولا يطالبُهُ فيها خصوم؛ يُدْرِكُ حِيْنَهَا أنَّ عيشَ الهناءِ في الخلاص من تبعاتِ الحقوق، وأن حياةَ الراحةِ في الأمنِ من غلبةِ الدَّيْن.
وأعظمُ الدَّيْنُ ما كان وفاؤه من الحسنات، وحقوقُ العبادِ فيما بينهم، قائمةٌ على المنازعةِ والمشاحةِ والمطالبة، ويومُ القيامةِ هو يوم الفصل، وهو يوم الجمعِ، وهو يوم التغابن.
والقصاصُ والتقاضي فيما بين العبادِ بالحسنات, حَذَّرَنَا نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ"(رواه البخاري).
وأعلم الناس بالله أخشاهم له, قال ابنُ المباركِ -رحمه الله-: قلتُ لسفيانَ الثوريِّ: "ما أبعَدَ أبا حَنيفةَ مِنَ الغِيْبَةِ!, ما سَمْعْتُه يَغْتَابُ عدوًا له قطَّ", فقال سفيانُ: "هو -واللهِ- أعقلُ مِنْ أنْ يُسلِّطَ على حسناتِهَ مَنْ يَذْهَبُ بها"؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: 28].
اللهم إنا نسألك الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ, وَالْغِنَى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي