وكم هو حرمانٌ وعصيان أن يتفضَّل عليك الله بهذه النعمة بلا ثمن!, ثم أنت تُقلِّبُ بَصرك في المحرمات, فكيف نعصيه بما أنعم, ونخالفُ أمرَه وهو -سبحانه- يرى ويعلم, أفلا نخشى ونحن نقلّب الطرف في كل منكر ومأثم, أن نُسلَب النعمة أو أن نُبتَلى بموت القلب ونحن لا نعلم؟.. قبل أن تُطلِق بصركَ فيما...
نِعَمُ الله على العبادِ كثيرة, بيد أن ثمةَ نعمةً جليلةً يتقلب فيها كثيرٌ منا وما قَدَرها قدْرها, تحتاجُ لها في كل حين وتعرف قدرها حين تُظلِم العين, قال بعض السلف: "إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمض عينيك".
نعم, نعمة البصر, تلك القوة الربانية التي أوجدها الله في عيني الإنسان؛ ليدرك بها ما حوله، وأودعها في قلبه وعَقلِه لِيَميز بين الخبيثِ والطيب، ويختارَ لنفسِه الطريقَ الصحيح, وهي واحدةٌ من نِعَم اللهِ الوفيرة, وردت في القرآن ما يقرب من مائة مرة, فدعونا نتأمل في هذه النعمة كي نشكر الله عليها ونعرف قدر ما أعطانا.
وبادئ ذي بدء أقول: قد أثبت الله لنفسه صفة البصر, فقال: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)[العلق:14]، (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[الأحزاب:9]، وقال إبراهيم: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا)[إبراهيم:42].
وعقيدتنا أن نُثْبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات, مع الاعتقاد بأن صفات الله ليست كصفات الخلق إذا قال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]، قال السعدي: "البصير: هو الذي يبصر كل شيء، وإن رقَّ وصَغُر، فَيُبصِرُ دَبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء, ويُبصِرُ ما تحتَ الأرضين وما فوق السماوات السبع، وأيضًا بصيرٌ بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته".
فحين تكونُ في الظلماء أو في أي مكان تَذكر أن الله يرى.
عباد الله: والله قد تفضل علينا بنعمة البصر في آيات عديدة فقال: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[المل:23]، (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[الإنسان:2]، (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[السجدة:9].
وأهلُ الطبِّ يقولون: بأن الله خلق أداة البصرِ في دقةٍ متناهية, ففيها الجمال, وفيها النظر والإبصار, وبالدمع تسلم العين, وبالأعصاب تأتي الإشارة للعين ليرى, وحينها توقن بقول المولى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)[الأنعام:46].
لأجل كل هذا فالواجب العظيم علينا, وسَجِيَّةُ المؤمن الموفّق, أن نشكر الله على هذه النعمة وغيرها.
والشكر يكون بالحمد لِمُجزِل الإنعام, وباستخدام هذه النعمة فيما أحب ذو الجلال والإكرام, وتَغُضَّ الطرف عما حرَّم من الآثام, والله -عز وجل- قال: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[السجدة:9]. قال القشيري: وشُكْرهُم عليها استعمالُها في طاعته، فشكرُ البصرِ ألا تنظر إلا بالله ولله.
وكم هو حرمانٌ وعصيان أن يتفضَّل عليك الله بهذه النعمة بلا ثمن!, ثم أنت تُقلِّبُ بَصرك في المحرمات, فكيف نعصيه بما أنعم, ونخالفُ أمرَه وهو -سبحانه- يرى ويعلم, أفلا نخشى ونحن نقلّب الطرف في كل منكر ومأثم, أن نُسلَب النعمة أو أن نُبتَلى بموت القلب ونحن لا نعلم؟
لذا يا موفّق: قبل أن تُطلِق بصركَ فيما حَرُمَ عليك حاسِب النفسَ, هذا البصرُ الذي لا يُقدَّر بكنوزِ الدنيا, هذا النظرُ الذي لو ضعف لبذلت لاسترداده كل ما تملك, عيبٌ وحرام, أن نطلقه في الحرام, قال رجل للجنيد -رحمه الله-: بم أستعين على غضِّ البصر؟ قال: "بعلمك أن نظر الله إليك أسبقُ من نظرك إلى المنظور إليه".
عباد الله: وقد قرر الله أن البصر يشهد لك يوم القيامة أو عليك, وفي التنزيل (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)[الإسراء:36]، قيل: أي ستُسأل حواسُّه عنه.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك، قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحك؟"، قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أُجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيُختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: بُعدًا لكن وسُحقًا، فعنكن كنت أناضل".
فسل نفسك بأي شيء سيشهد عليك بصرك عند الله, أبِالخير أم بغيره؟,
اللهم استرنا بسترك وعافنا بعفوك..
الحمد لله وحده..
البصرُ يا كرام وسيلةٌ للتفكر في الكون والمخلوقات, كي ترى فيه ما يقوّي الإيمان وهل السير في الأرض وتقليب البصر في دلائل الملكوت والعظمة إلا واحدة من مقاصد المسلم حين يسيح في الأرض (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[العنكبوت:20]، (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[النحل:79]، (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)[الملك:3].
وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحج:65]، (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)[النحل:14]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ)[النور:43].
والبصر بوابةٌ للنظر في أحوال من سبق من الأمم (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[الأنعام:11]؛ كل هذا لمن رُزِق البصر, فأما مَن ابتلاه الله بفقده فليبشر بموعود ربه, قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ".
فاطمئن فهو ابتلاءٌ بأجرٍ لو علمته لفرحت بما ابتلاك, وفي دنيا قصيرة, وقد يكون سلب البصر خيراً لك, لتُرفع الدرجة, وتُعوَّض بنور البصيرة, ويكفيك عِوض الله لك بالجنة, لتسعد عيناك في الجنة برؤية مولاك.
عباد الله: وإذا كان هذا في البصر, فالبصيرةُ نِعمةٌ أعظم ومِنَّةٌ أجزل, وكم من امرئ أُوتي بصراً فما أوتي بصيرة, ومن فاضلٍ حُرِم البصر فنوّر اللهُ بصيرته.
والبصيرةُ هي العِلمُ والحجةُ الواضحة, تُنال البصيرة بالعلم والمعرفة, على هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-, وربنا يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف:108].
ولن تجد يا موفق كتاباً يَغمُرك بالبصيرة ويُنير دربك بالعلم والحجة كالقرآن (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[الأعراف:203].
فإذا أردت نور البصيرة فالزم كتاب الله, اجعل في صدرك منه حفظاً, ولوقتك منه للتلاوة والتدبر نصيباً, ثم الهج لربك بالدعاء أن ينوِّر الله بصيرتك وللهدى يَدُلُّكَ وعلى الطريق المستقيم يُثبِّتك, فالمرء بنفسه ضعيف, وبربِّه قوي.
واعلم يا مؤمن أن العمى ليس عمى الأبصار, إنما العمى الحقّ عمى القلب, وربنا -عز وجل- يقول: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:46].
اللهم نوِّر بصائرنا، ولا تجعلنا ممن طبعت على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي