والواجب على المسلم أن يتخلق بخلق الرحمة في كل أحيانه؛ فيرحم والديه بطاعتهما وبرهما والإحسان إليهما والتخفيف عنهما، ويشمل أرحامه بالرحمة والإحسان، ويأخذ بيد الأعمى في الطرقات ليجنِّبه الخطر، ويرحم...
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: لا سعادة للبشرية إلا بطاعة الخلاق والتحلي بمكارم الأخلاق؛ ألا وإن من أعظم الأخلاق التي جاءت بها شريعة الإسلام؛ خُلق الرحمة فبه يسعد الأنام وتسود الألفة والوئام، ولا شك أن الرحمة ملاك الخير كله وهي درجات متفاوتة وأسمى درجاتها؛ رحمة الله -تعالى- بكافة خلقه، ثم رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته، ثم رحمة الخلق بعضهم بعضا؛ وما أجمل قول الشاعر في خلق الرحمة:
خلق أرق من النسيم ورحمة *** عمت يشيد بذكرها الرحماء
وعليك من شرف الأمانة حلة *** ومن السكينة والوقار رداء
والرحمة صفة من صفات الله -تعالى-؛ حيث اشتقت من اسمين من أسمائه الحسنى، وهما: الرحمن الرحيم، وقد كتبها الله على نفسه، قال -تعالى-: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام: 54].
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي"، وعند البخاري في رواية أخرى: "إن رحمتي غلبت غضبي".
والرحمة -أيها المؤمنون- لها أهمية بالغة في حياة المجتمع فهي قيمة أخلاقية، ومبدأ من المبادئ الكلية التي جاءت بها شريعة الله -تعالى-، ولها أثرها البالغ في الحياة الاجتماعية ودورها الكبير في إبراز روح التكافل والترابط بين الناس الذي يشبه البنيان في تماسكه وتلاحمه؛ ففي صحيح مسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؛ وفي الحديث تنبيه إلى أن التراحم بين المؤمنين من أهم أسباب الوحدة ووصول الأمة إلى تحقيق مفهوم الجسد الواحد، مع التواد والتعاطف.
أيها المؤمنون: والمتأمل في حقيقة الرحمة بمفهومها الشامل يجد أنها تتجلى في صور متعددة ومظاهر متفاوتة؛ فمن ذلك:
رحمة الله الرحمن الرحيم؛ الذي قال -تعالى- عن نفسه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156]، وقال -سبحانه-: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا)[غافر: 7].
ومن رحمة الله بعباده؛ أن يسر لهم أسباب الحياة إلى حين -على أرضه وتحت سمائه-، وأجرى لهم الأنهار، وأنبت الزرع والثمار، وجعل لنا الليل والنهار، وأفاض علينا من النعم والخير ما لا يحصى؛ يقول -تعالى-: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الروم: 50]، وقال -تعالى-: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[القصص : 73]؛ ورحمة الله رحمة شاملة كاملة؛ فقد عمت الكائنات جميعها فما من كائن إلا وبرحمة الله يحيا، وفي ظلالها يعيش؛ جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الرحمة -عليه والصلام والسلام- قال: "إنَّ للَّهِ مائةَ رحمةٍ، قَسمَ منها رحمةً بينَ جميعِ الخلائقِ، فبِها يَتراحمونَ، وبِها يَتعاطفونَ، وبِها تعطِفُ الوحشُ على أولادِها، وأخَّرَ تِسعةً وتسعينَ رحمةً، يرحمُ بِها عبادَهُ يومَ القيامةِ"(متفق عليه).
ومن مظاهر الرحمة وصورها: رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه وأزواجه وأمته؛ تقول عائشة -رضي الله عنها- عن رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- "ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده خادمًا له قط ولا امرأة"(رواه أحمد).
وقد حمل -صلى الله عليه وسلم- مشاعل الهدى، وأنوار الإيمان، وأوضح للناس أسلوب العمل الذي يصلحهم في الدنيا، ويحقق فيها آمالهم، ويسعدهم في الآخرة؛ فكان خير البرية رحمة للناس كافة، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107]، وكان -صلى الله عليه وسلم- بالمؤمنين رحيماً، وكان حريصاً على هدايتهم وإيصال نور الحق إلى قلوبهم؛ يقول الله -تعالى-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128].
لقد شملت رحمته -صلى الله عليه وسلم- المحسن والمسيء والمتبع والمعرض حتى الحيوانات والشجر والجمادات؛ بل هو رحمة تدعو البشرية إلى الرحيم -جل في عليائه-، ولله در القائل:
صلى عليـك الله يا خير الورى *** يا رحمة تدعو إلى الرحمن
ومن مظاهر الرحمة -أيها الرحماء- رحمة الخلق بعضهم بعضا؛ وقد أخبر إمام الرحماء -صلى الله عليه وسلم- أن الرحماء بأهل الأرض يرحمهم رحمن الأرض والسماء؛ فقال: "ارحم من في الأرض، يرحَمْك من في السماء"(رواه الطبراني والحاكم)؛ بل أخبر -عليه الصلاة والسلام- أن رحمة الخلق بعضهم لبعض؛ شرط لاكتمال الإيمان؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ تُؤْمِنُوا حتى تراحمُوا قالوا: يا رسولَ اللهِ كلُّنا رَحِيمٌ. قال: إنَّهُ ليس بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صاحبَهُ، ولَكِنَّها رَحْمَةُ العامَّةِ"(صححه الألباني).
والواجب على المسلم أن يتخلق بخلق الرحمة في كل أحيانه؛ فيرحم والديه بطاعتهما وبرهما والإحسان إليهما والتخفيف عنهما، ويشمل أرحامه بالرحمة والإحسان، ويرحم الضعفاء والمساكين والبسطاء؛ بل قبل ذلك ينبغي على المسلم أن يرحم نفسه فيقيمها على مراد الله والقيام بالواجبات التي تقربه من رحمة الله ورضاه وتسعده في دنياه وأخراه، واجتناب ما يحول بينه وبين رحمة مولاه.
فاتصفوا -أيها المؤمنون- بالرحمة وتحلوا بها، وكونوا رحماء بخلق الله كافة تنالوا رحمة ربكم..
اللهم اجعلنا من الرحماء بخلقك وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
عباد الله: وحتى نتخلق بخلق الرحمة لابد أن نتأمل في حياة الرحماء حتى نتأسى بهم ونسير على خطاهم، وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى نموذجين عل الله أن ينفعنا بهما:
فالأول؛ رسول الرحمة -عليه الصلاة والسلام- حيث دخل عليه رجل؛ فوجده يقَبِّلُ حفيده الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فتعجب الرجل، وقال: "والله يا رسول الله إن لي عشرة من الأبناء ما قبَّلتُ أحدًا منهم أبدًا" فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم لا يرحم"(متفق عليه)، وكم هي الأمثلة والمواقف من حياة سيد الرحماء -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان رحيما بالضعفاء والفقراء والصبيان والنساء وعموم أمته خاصة والبشرية عامة؛ بل كان رحيما بالحيوانات والجمادات؛ ولا غرابة فهو الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم-.
وأما النموذج الثاني: فهو ذلك الرجل الذي رأى كلبًا وقد بلغ به العطش مبلغا فتحرك خُلق الرحمة في قلبه؛ كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّهُ بالماء، ثم أمسكه بفيه؛ فسقى الكلب، فشَكَرَ اللهُ له، فَغَفَر له"؛ فإذا كانت المغفرة قد نالها من سقى كلبا؛ فما جزاء من رحم ضعفاء المسلمين وفقراءهم؟ وما ثواب من واسى اليتيم وجبر الكسير وأطعم الجائع وأمن الخائف وأعطى المحروم؟
لا شك أن الثواب أعظم والجزاء أكرم.
أيها المسلمون: ما سمعتموه ما هو إلا غيض من فيض؛ فرحمة الإسلام عمت البشرية كافة؛ بل والحيوانات والجمادات؛ فما أحوجنا إلى التخلق بهذا الخلق الكريم؛ لا سيما مع الضعفاء والمساكين وكبار السن والصغار وأصحاب الاحتياجات الخاصة؛ حتى يشملنا الله برحمة منه وفضل؛ فالراحمون يرحمهم الرحمن، ومن لا يرحم لا يُرحم.
وصلوا على من أمركم الله بالصلاة عليه في كتابه العزيز فقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً)[الأحزاب: 56].
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي